بهيّة الحريري: زعيمة «المستقبل» تخرج مـن الظلّ

من جديد، سيغيب الرئيس سعد الحريري عن المشهد الدّاخلي، بعدما «أدّى الواجب» ونجح في «الاختبار الشعبي» بحشدٍ أثبت أنّ تيّار المستقبل لا يزال موجوداً وقادراً على خوْض الاستحقاقات. سيعود «الزرق» إلى الحياة السياسيّة، ولكن هذه المرّة عبر بهيّة الحريري التي ستنتقل إلى «بيت الوسط» للإشراف على آليات العمل في الانتخابات البلديّة، ومن بعدها النيابيّة، على أن تكون رئيسة كتلة «المستقبل» في ما بعد. «أمّ نادر» ليست طارئة على هذا العالم، هي التي دخلته منذ أكثر من 35 عاماً بعد سنوات من العمل الاجتماعي والتربوي، إلى جانب شقيقها الأكبر، الرئيس رفيق الحريري، ثم إلى جانب نجله. على مدى أكثر من نصف قرن، مثّلت «سيّدة مجدليون» وجدان الحريريّة الشعبيّة وكانت أمينة على العهد والإرث، على الأرض، كما داخل العائلة.
على مدى 55 عاماً، ارتضت بهيّة الحريري أن تكون «السيّدة الأولى» بعيداً من الأضواء. اكتفت بوهجها الذي ظلّل آل الحريري، وبحضنٍ جمعت به أضدادهم. عندما قرّر رفيق الحريري أن يحوّل أحلامه إلى واقع لم يجد سوى شقيقته الصغرى، القريبة منه دائماً رغم بُعد المسافة بين صيدا والسعوديّة، والتي ساهم في تبلور شخصيّتها، وورثت منه الكثير، في الملامح والأفكار.
عرف رجل الأعمال الغارق في مشاريعه الخارجيّة أنّ المدرّسة ابنة العشرين عاماً «قدّ الحمل». الذاكرة القويّة التي ورثاها عن والدتهما وفراستها وسرعة بديهتها ودقّتها وطباعها المتوازنة، كلها ساهمت في قراره رمي «العباءة» على كتفيها، فتركت مهنة التّعليم التي مارستها 9 سنوات، وانطلقت إلى العمل الاجتماعي.
لم تكن مشاريع ابن صيدا قابلة للتحقق من دونها، هي التي حدّثته مطوّلاً عن الغُبن اللاحق بأبناء الجنوب، وعن أهميّة الصمود في المناطق المحتلّة، وعن ضرورة التعليم لإيجاد فرص العمل. كانت صيدا وجوارها همّها الأساسي، وفيها بدأت مسيرتها عام 1979، مسؤولة عن «مؤسسات الحريري» عندما كانت تسمّى «المؤسّسة الإسلاميّة للثقافة والتعليم العالي».
انهمكت «أمّ نادر» في المسؤوليات. بدأت بمعهدٍ تقني في كفرفالوس لتعليم الشبّان والشابات في الجنوب وجزين امتداداً إلى البقاع، قبل أن يكبر الحلم إلى مدرسة ومستشفى. بالنّسبة إليها، كانت هذه المشاريع جزءاً من الصّمود في الأرض ومرحلة تحضيريّة لانتقال يد الدّولة إلى المنطقة الغائبة عن خططها. انخراطها في الأعمال الاجتماعيّة مكّنها في عز الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 من البقاء على الأرض وتوسيع رقعة المُساعدات التي طاولت خلال السنوات التالية معظم المناطق.
عرفت «الست» كيف تكون «عينَي رفيق» على الأرض ناقلة إليه الصّورة والأولويات، وعرفت كيف تقود الأرض من دون أن تتفرّد بالقرار. سريعاً، اكتشف أن خياره في مكانه: الشابّة العمليّة تتقن عملها ولا تنتقل من مشروع إلى آخر، قبل أن تنجز الأوّل مع عناية بأدق التفاصيل.
تُلبّي حاجات النّاس وصارمة في قراراتها. تُعطي الأمور وقتها وتبحث عن الحلول. بين المشروع السياسي لرفيق والعمل الاجتماعي والثقافي والتربويّ لبهيّة، وإيكال تنفيذ المشاريع الهندسيّة لشفيق، اكتمل «التريو الحريري».
«سيدة المجتمع»... والأُسرة
أدّى ذلك إلى ترابط العائلة وتماسكها. الثقة العمياء بينهم دفعت برفيق إلى ترك أولاده في منزل جدّهم لمتابعة دراستهم في جوار صيدا، وتحت نظر العمّة التي كانت تتابع دراستهم وتقسو في رقابتها عليهم، فعاش سعد لفترةٍ في كنف عمته كواحد من أولادها، وتحوّلت هي إلى أمه الثانية.
رغم كثرة الأعباء الملقاة على عاتقها، كانت «سيّدة مجدليون» الملاذ الآمن للعائلة، وكان لها الأثر البالغ في الحفاظ على تماسكها، خصوصاً أن الأسرة كانت دوماً إحدى نقاط ضعفها، إذ إن فقدان أحد أفراد الأسرة هاجس كبر معها مذ فقدت والدتها.
العاطفة التي تُحاول دوماً كبحها، عوّضت عنها بالعمل الشاق لأكثر من 18 ساعة متواصلة بترتيب وتنظيم دقيقيْن، فمدّت شبكتها العنكبوتيّة إلى صيدا وجوارها، وأثبتت حضورها قيادياً، وقدّمت نموذجاً مختلفاً عن سيّدات العمل الاجتماعي، و«تسلّلت» بكثير من الفطنة إلى حدائق العائلات التقليديّة من دون استفزاز.
كلّ ذلك، يَسّر على الحريري قراره إدخالها المعترك السياسي قبل شهرين فقط من موعد الانتخابات النيابيّة في أيلول 1992. وهي التي لطالما ردّدت أنّها ليس من هواة هذا العالم، قرّرت أن تدخله من البوابة التربويّة والثقافيّة والاجتماعيّة... وعلى طريقتها.
هكذا، ترشّح من دون «الطقوس التقليديّة» للمرشحين، فلا جولات ولا مواقف سياسيّة، طالما أن صيت أعمالها كان يسبقها. ولأنّها ليست بارعة في المناورات السياسيّة، كما كانت تُردّد، ابتعدت عن السياسة والإعلام، فندر أن أطلّت بعد انتخابها في الإعلام أو في مجلس النوّاب. فعلياً، كانت غريبة عن عالم فُرض عليها دخوله. لكنّها، بعدما حاولت ثني شقيقها الأكبر عن خوْض غماره، سُرعان ما وقعت في شباكه، ونقلت جيناتها إلى أفراد أُسرتها واحداً تلو آخر.
عندما كبرت بهيّة
«ديو» رفيق وبهيّة قام على عاطفة الأخوّة أكثر منه على «سيبة» العمل والسياسة. هاجس الخشية من خسارة شقيقها الأكبر رافقها دائماً، وهي التي قلّ أن خاب حدسها، قبل أن تعيش صدمة الفراق في 14 شباط 2005.
من يعرفها عن كثب، يُدرك أنّه عند السّاعة 12 و55 دقيقة من ذلك اليوم، كبرت المرأة الهادئة سنوات في دقائق معدودة. رغم أنها اعتادت قلب الصفحات على عجل كي لا تُصاب بخيبات أمل، لم تتمكّن من قلب صفحة «الرئيس الحريري». غزا الشيب شعرها الأسود وطبع الكبر ملامحها، ولم يفارقها اللباس الأسود والوشاح الأبيض منذ استشهاده، ودخلت عهدَ تحوّلها إلى زعيمة سياسيّة.
يوم وقفت «الست» على منبر مجلس النوّاب، في 28 شباط 2005، هزّت الشارع، وتمكّنت بالعاطفة والسرد السياسي من إسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي. الكثير من العوامل الإقليمية والدولية فعلت فعلها يومها، لكن كان لكلمتها وزن في اختيار سعد وليّاً للدم، وهو القريب منها الذي عاش معها فتراتٍ مختلفة، واثقةً من عقلانيّته مقابل تهوّر شقيقه الأكبر.
مع تولّي سعد القيادة، قبلت مرّة جديدة العيش في «العتمة» ولعبت الدور الذي لعبته مع والده كـ«مُرشد أعلى»، مُحاولةً إبعاد «أصحاب المكائد» عنه، وأحاطت «بيت الوسط» بولديها أحمد ونادر. لكنها، رغم الغبار الكثيف يومها، بقيت تُمارس السياسة على طريقتها، باستقلاليّة وحكمة مكّنتاها من الوقوف أمام جمهور 14 آذار، لتقول: «لن نقول وداعاً سوريا، بل إلى اللقاء. إنّنا هنا نُمثّل دولة الرئيس نبيه بري وسماحة السيّد حسن نصرالله». تخطيطها الدائم والمُسبق لخطاباتها أعطاها مزيداً من الجرأة، منتقية كلماتها بعناية، ومتمسكة بـ«الكلمات المفاتيح» التي تردّدها دوماً: «العيش المشترك وبناء الدولة والوحدة والاستقرار».
كثيرةٌ هي محطات التّمايز في خطاب «سيّدة مجدليون». تشبّثها بعلاقاتٍ سياسيّة في عز الاصطفاف السياسي المحموم وانفتاحها الدائم للحوار أبعداها عن الخط الأول للمواجهة. فلعبت دور الوسيط بين سعد وخصومه بذكاء، من دون أن تفقد موقعها السياسي. وبذلك، تمكّنت «أمّ نادر» من تحييد صيدا قدر الإمكان عن الخلافات.
المرأة التي لم تكن تهوى السياسة صارت من أربابها. ودعّمت حضورها السياسي في صيدا بقسوة وحزمٍ. جدران «مجدليون» حفظت عن ظهر قلب شدّة مواقفها وسُرعتها في اتّخاذ القرارات وإلزام من حولها بتنفيذها من دون أخذٍ وردّ.
ومكّنها تعاظم نفوذها في المدينة، من البقاء بعد رفيق، ومع سعد، حامية لإرث الحريريّة السياسيّة، ومع الوقت أطبقت على صيدا والكثير من مؤسساتها، وصارت صانعةً لنوابها ورؤساء بلديتها، وحتى مُفتيها.
«نحن مع سعد»
بعد عام 2005، تحوّلت «أمّ نادر» إلى قياديّة سياسية حديدية، ما مكّنها من الوقوف أمام أولياء الأمر في السعودية، ورفض الدّعوة الهاتفيّة من الديوان الملكي لبيعة بهاء بدلاً من سعد عام 2017، قائلة: «نحن مع سعد». الرابط بين بهيّة و«ابنها» الخامس، سعد، يفرض عليها التواصل اليومي معه أو حتّى زيارة سريعة إلى أبو ظبي للاطمئنان إلى صحّته، بعدما علّق عمله السياسي.
الاعتكاف لم يسرِ على بهيّة، التي وإن التزمت بقرار ابن شقيقها في السياسة، واصلت العمل الاجتماعي، واحترفت الاحتفاظ بأوراقها السياسيّة بانتظار عودة سعد. ولثقتها به، لم تحل عاطفتها دون صد الشقيق الأكبر الطامح إلى الإمساك بالإرث السياسي. لذلك مرّرت «عاصفة بهاء» برويّة وحنكة من دون أن تؤجّج الحرب بين الشقيقين.
أول زعيمة سنّية
وعليه، وقفت بهيّة إلى جانب سعد في الذكرى العشرين لاغتيال والده، وسارعت إلى الإيماء برأسها حينما استنجد بها لتحل مكانه في «غيبته الطوعيّة»، متيقّناً بأنّها الأوفى في إعادة الإرث متى سقطت أسباب اعتكافه. سيعود سعد إلى أبو ظبي، وستنتقل «أمّ نادر» إلى بيت الوسط للإشراف على التحضيرات للانتخابات البلديّة التي سيخوضها تيار المستقبل في طرابلس وبيروت وصيدا، ومن ثم لخوض معركة الانتخابات النيابيّة، لتكون الوصيّة الشرعيّة على «الحريريّة» وأوّل امرأة تتزعّم السنّة، بعدما كانت أوّل سنيّة تدخل المجلس النيابي.
غير أن بهية لن تكون سعد وإن حلّت محلّه مؤقّتاً. شخصيّتها المُستقلّة ومرونتها تقودانها حتماً إلى وقعٍ مختلف في المعترك السياسي، فهي أقلّ حدّة في الممارسة وأكثر وسطيّة، وهو ما مهّد له سعد في مواقفه الأخيرة. كما سيكون لها فريقها الخاص في «بيت الوسط»، بغضّ النّظر عن المُعارضين في الدّاخل.
العارفون بمضمون نقاشات «بيت الوسط» يقولون إنّ القرار حول مُشاركة رئيس «تيّار المستقبل» في الانتخابات لم يُحسم بعد، مرجّحين بأن يولي عمّته أمر رئاسة كتلته النيابيّة بعد أن تترشح في بيروت، على أن يكون نجلها الأمين العام للتيّار، أحمد نائباً عن صيدا، إلى جانب اهتمامه بتفعيل نشاطات «التيار»، بعدما قاد عمليّات انفتاح سياسي مع عددٍ من الشخصيّات السياسيّة التي لم تكن تدور في «الفلك الأزرق»، أو كانت حتى الأمس القريب تُعد في «محور الخصوم».
وفي مُطلق الأحوال، سيسير سعد على نهج والده الذي استأمن مشاريعه التنمويّة والتربويّة، ومعها أولاده، «في عينَيْ بهيّة».