يحيى السنوار... «همشري حماس» الذي أيقظ العالم
أزمة إسرائيل مع يحيى السنوار، أنها كانت تظن أنها تعرفه أكثر من الجميع، إذ لم يعايش أحد من جيلَي غزة القديم والجديد، مؤسس الجهاز الأمني لحركة حماس «مجد» لمدة 22 عاماً متواصلة، فيما حظي الإسرائيليون بتلك الفرصة طوال مدة سجنه من عام 1989 وحتى الإفراج عنه في صفقة «وفاء الأحرار» عام 2011. ربما لم ينشغل الإسرائيليون بإحصاء أنفاس «أبو إبراهيم» ودراسة طبائعه، إذ اعتقدوا أن مَن يُحكم عليه بالسجن مدى الحياة و25 عاماً إضافية، لن يمتلك متسعاً من العمر، لكي يخادعهم ويقاومهم، بل ويهدّد وجودهم، ثم يفاوضهم على مصير أسراهم. وفي مقابل غفلة السجان وغروره، سيستغل «السجين» حياة السجن في إقامة أعلى مستويات التفاعل مع بيئة الاحتلال ومجتمعها: سنوات طويلة من النقاشات والدراسة المعمّقة، مكّنته من فهم مجتمع العدو وتحليله، بمختلف بيئاته السياسية والأمنية والعقائدية.
هو ابن مخيم خانيونس، فيه ولد (1962) بعدما هُجّرت عائلته من مدينة المجدل (عسقلان) شمال غرب قطاع غزة. ومن هناك، سطعت شخصية القائد الحازم، والتي عكستها سنوات ما قبل اعتقاله في نهاية الثمانينيات، حيث انشغل بتأسيس وبناء الأصول المؤسساتية والتنظيمية لحركة «حماس» في مدينة خانيونس، في ثلاث سنوات فقط، هي مساحة الحرية التي تحصّل عليها الشاب المندفع ما بين تأسيس «حماس» عام 1987 واعتقاله عام 1989، أسّس معلّم اللغة العربية، «مجد»، الذي نشط في قمع العملاء وملاحقتهم، وبنى بيده مسجد الشافعي في خانيونس، وقاد مجلس الطلبة في «الجامعة الإسلامية». ثم بعد اعتقاله، تولّى قيادة أسرى «حماس» في سجون العدو لسنوات طويلة.
لم يتصدّر السنوار المشهد القيادي في «حماس» فور خروجه من السجن. احتاج الأمر إلى 5 سنوات هي الفاصل بين تحرّره عام 2011 وقيادته الحركة في غزة في نهاية عام 2016. قضى القائد الوطني تلك المدة في محاولة تحليل وتفكيك أزمات المشهد الوطني والتنظيمي، بعد أن تركت الثورات العربية، الحركة «الإخوانية» معزولة ومهمّشة ومحاصرة، ولا سيما إثر الانقلاب على الرئيس المصري الراحل، محمد مرسي، عام 2013. وفي خلال عام واحد من قيادته الحركة في القطاع عام 2017، خرج الرجل بـ«حماس» من ثقل ارتباطاها بجماعة «الإخوان المسلمين»، وتمرّد على كل التابوهات وكسر محرمات «الحق والباطل» التي حاصرت القرار «الحمساوي» الملتزم بقراءة الأحداث بعين «الإخوان»، وأصلح العلاقة مع مصر، وحرّك المياه الراكدة في ملف المصالحة الوطنية، بل وتقدّم خطوات لم يجرؤ أحد على السير بها قبله ولا بعده، حملت تنازلات حزبية كبيرة وجادة عن كل مفاصل ومظاهر الحكم، وأفضت أخيراً إلى دفع الأجهزة الأمنية في السلطة إلى افتعال الأزمات للهروب من استحقاق إنهاء الانقسام ورأب الصدع. لقد كان أبو إبراهيم «فلسطينياً وطنياً» أكثر من كونه «حمساوياً إخوانياً».
وعلى الصعيد المقاوم، عاد الرجل ذو التاريخ العسكري، بالحركة إلى مربع الأهداف الأول. يحكي أحد المطلعين، لـ «الأخبار»، أن السنوار حسم أمر التموضع الإقليمي لـ«حماس» وقرار العودة إلى دمشق، ورفع مستوى العلاقة مع «حزب الله» والجمهورية الإسلامية في إيران، بطرحه جملة من الأسئلة خلال اجتماع مع أعضاء المكتب السياسي للحركة تم في القاهرة عام 2022. ويقول المصدر: «تلك التساؤلات كانت من نوع، لماذا تشكلت حركة «حماس»؟ أليس لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، هل يمتلك أحدٌ إجابة أخرى؟ لنبحث عن خصوم إسرائيل في العالم، الذين يشاركوننا سقف أهدافنا، في أي العواصم نجدهم؟ في لبنان، دمشق وطهران وصنعاء، دلونا على عواصم أخرى». يمتلك الرجل جرأة على طرح أبسط الأسئلة التي تقود الإجابة الصادقة عليها إلى اتخاذ أصعب القرارات. هكذا، مضى وفد «حماس» إلى دمشق بعد 10 سنوات من القطيعة.
طوال السنوات التي تولّى فيها قيادة الحركة في غزة على مدار دورتين انتخابيتين (2017 – 2025)، دشّن السنوار سنّة جديدة لم يسبقه إليها قائد «حمساوي» آخر، إذ كرّر عقد العشرات من الاجتماعات العامة، مع القيادات العشائرية والصحافيين وأصحاب الرأي والتجّار، والتقى مع كل فئات المجتمع، وشكّلت تلك اللقاءات مصادر التغذية التي اعتمد عليها في تعويض سنوات غيابه الطويلة عن الحياة الاجتماعية. وفي واحد من اللقاءات التي جمعت كاتب هذه السطور بالسنوار إلى جانب المئات من الصحافيين، بدا واضحاً أن لـ«ابن المعسكر» طبيعته وشخصيته المميّزة جداً. هو ليس رجل سياسة بالمعنى التقليدي. لا يقدّم الإجابات المعلّبة، ولا يتردّد في نقاش أي فكرة شائكة. حتى الذين ظنّوا أنهم يحرجونه، ابتسم لهم، ثم أخذ الصور التذكارية معهم. في اللغة المحكية الغزية، يُسمى صاحب الشخصية الرسمية الذي لا يقيم وزناً للبروتوكول بـ«الهمشري». وقد كان السنوار كذلك فعلاً. في أحد لقاءاته المتلفزة، قال مصدّقاً تلك الفكرة: «أنا أحب كثيراً أن أخرج عن السطر، وأحب كثيراً أن أخلع الجاكيت، ألبسوني إياها رغماً عني من أجل العمل السياسي. أقول لك ولأمتنا، إن مجانين غزة لديهم من المخزون الثوري ما سيوقف كل المؤامرات وكل المتآمرين، ولدينا من الاستعداد للتضحية والفداء، ما لا يمكن أن يتصوره أحد».
في الفترة التي سبقت «طوفان الأقصى»، قادت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مساومة لا مناص منها، حيث ربطت «اللعب في ساحة الضفة الغربية» بقرارها التوجّه إلى تفعيل سياسة الاغتيالات، وكان الثمن المطلوب دفعه لحماية رأسي صالح العاروري ويحيى السنوار على صعيد «حماس»، هو وقف نشاط «كتائب القسام» في الضفة، ووقف التحريض والدعم المالي لخلايا المقاومة هناك. وفي خضمّ الأسئلة الصعبة عن موقف «حماس» من تلك المساومة، كانت المنطقة على موعد مع الطوفان، العملية التي تمثّلت فيها شخصية «السنوار المجنونة»، بكل ما فيها من الحكمة والبساطة ووضوح الهدف والعناد والاستعداد للتضحية، وصفات كبيرة ومتداخلة، تحملها شخصية رئيس المكتب السياسي الجديد. هي بكل تأكيد، نسخة كربونية عن صورة الفلسطيني الذي حَدّد العالمُ المتآمر له، قيودَ الاتزان والعقل، بالخنوع والقبول بفتات الحلول والتخلّي عن الشرف والأرض.