رئاسة الأركان... فوق القانون يوماً وتحته يوماً
حجب الاعتداء الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية واغتيال فؤاد شكر استعادة الأول من آب عيداً للجيش. هو الغياب الأول منذ اندلاع حرب غزة. لكنّه الغياب الثاني منذ شغور رئاسة الجمهورية في تشرين الأول 2022
أدهى ما في تعذّر احتفال الجيش بعيده أنه واقع بين فكّين: أولهما ما يجري في الجنوب بتعليق القرار 1701، وتالياً تعطّل دوره هناك في نطاق تنفيذه، فيما الحرب المفتوحة بين حزب الله وإسرائيل تخطت بكثير قواعد الاشتباك في بقعة عمليات الجيش والقوة الدولية. ثانيهما الاهتراء الضارب في اليرزة في النزاع الناشب بين وزير الدفاع وقائد الجيش، كما بين السياسيين من حول المؤسسة العسكرية وعليها في صراعهم على مواقع السلطة والنفوذ فيها. في جزء أساسي من هذا الصراع عاملان مباشران هما الاشتباك القائم من حول حكومة تصريف الأعمال، بأن أضحى الوزير موريس سليم والعماد جوزف عون واجهته، وإدخال الجيش في بازار الانتخابات الرئاسية بالحملة الدعائية لترشيح قائده على جاري المعتاد دورياً في كل استحقاق مماثل. فَهِمَ البعض من تمديد ولاية القائد سنة، إبقاءه في معترك الترشيح أكثر منه هلعاً وذعراً مزعوميْن على مصير مؤسسة عسكرية يخشى أن تصير بلا رأس أو برأس مستعار. فَهِمَ بعض آخر انتقال النكايات السياسية إلى داخل الجيش، فجرجرت أذيالها فوق الخلاف على الرجل على المجلس العسكري والتناحر على الصلاحيات والكلية الحربية، وأخيراً رئاسة أركان حلّ فيها ضابط كبير دونما تمكنه من تسلّم منصبه. موجود بالوهم. لا في القانون ولا في الواقع. لا الموقع ولا الرتبة حتى.
ربما عبّر عن الحال البائسة هذه، كتاب وزير الدفاع إلى قيادة الجيش في 26 شباط 2024، مخاطباً إياها بعد تسلّمه كتاب الأمانة العامة لمجلس الوزراء قبل أسبوعين إشعاراً بتعيين العميد حسان عودة رئيساً للأركان. في كتابه، قال سليم إن التعيين «منعدم الوجود» لتعارضه مع الدستور وقانون الدفاع، قبل أن يختم بـ«التأكيد على ما يتأتّى من انعدام وجود هذا القرار من آثار ومفاعيل تفرض عدم العمل بموجبه، وأيضاً على ما يترتب من تبعات مع مسؤوليات في حال العمل بما لا يأتلف مع ما سبق ذكره أو الإخلال به».
مذ ذاك أضحت الصورة مبعث خجل: لا وجود لرئيس الأركان سوى في مبنى قيادة الجيش، وفي العلاقة الشخصية بين عون وعودة، دونما ممارسة الوظيفة ولا الصلاحيات منذ التعيين في 8 شباط. في المقابل بين الوزير ورئيس الأركان المُعيّن قطيعة نجمت عن عدم الاعتراف بشرعية التعيين، مثلما ثمة ما يشبه الانقطاع بين مبنى الوزير ومبنى القائد، لا يجمع بينهما سوى تعاطي الحد الأدنى ما خلا الضرورة التي تُشعر الثاني بحاجته إلى الأول. آخر علاماته ما حدث الخميس 25 تموز عندما خابر قائد الجيش وزير الدفاع يُعلمه أنه مسافر إلى قبرص لثلاث ساعات الإثنين التالي 29 تموز، دونما تحديد الهدف منها وبرنامجها. لأن مغادرة طوافة عسكرية الأراضي اللبنانية في مهمة إلى الخارج تتطلب موافقة مسبقة من وزير الدفاع وإذْنه، لم يرَ عون بداً من طلبه ضمناً موافقة، للسماح للطوافة العسكرية بالإقلاع في معرض إخطاره بسفره إلى الجزيرة. وافق الأول ووقّع الإذن، فسافر الثاني.
الجدل المُحدث الدائر في اليرزة ومن حولها هو طرح الحجة المعاكسة لما كان يدور أخيراً عن جهود، مؤداها إقناع الوزير بالتراجع عن طعنه في قانونية مرسوم تعيين رئيس الأركان بغية قوننته قبل الوصول إلى 10 كانون الثاني 2025، موعد انتهاء الولاية الممددة لقائد الجيش. الحجة المعاكسة المتداولة في أوساط القائد والدائرين في فلك المهتمين به وبترشيحه لرئاسة الجمهورية، أنّ توقيع مرسوم تعيين عودة يحلّ مشكلة رئيس الأركان ويثبّت قانونيته ولا يحل مشكلة شغور القيادة بعد 10 كانون الثاني المقبل. يستند هؤلاء إلى الفقرة الثانية من المادة 21 في قانون الدفاع 102/83، إذ تنيب رئيس الأركان عن قائد الجيش «في حال غيابه ويمارس مهماته وصلاحياته طيلة فترة غيابه». فصلت المادة بين الغياب الظرفي المؤقت وبين شغور المنصب الذي لا يُعدّ غياباً، بل انتهاء الولاية القانونية للتعيين.
ما لم يكن يُراد إبصاره في قانون الدفاع، في الفقرة الأولى من المادة 21 نفسها، وهو «اقتراح» وزير الدفاع تعيين رئيس الأركان ـ كإجراء ملزم ـ، ولا كذلك في المادة 66 في الدستور بتوقيع الوزير المختص مرسوماً يعود إلى اختصاص حقيبته ـ وهو أكثر إلزاماً ـ، فتجاهله مجلس الوزراء في 8 شباط وتجاوزه، يُراد الآن إبصاره في قانون الدفاع والتمسّك بأحكامه واحترامها وعدم مخالفتها، بتمييز الغياب والتغيّب عن الشغور بغية تبرير الحاجة مجدداً إلى تكرار ما حدث في 15 كانون الأول الفائت، بتمديد ثانٍ لولاية قائد الجيش قبل 10 كانون الثاني. تكمن مصلحة عون حالياً في استمرار إحجام سليم عن توقيع مرسوم عودة، مثلما كمنت في حاجته إلى المرسوم المخالف للقانون بعدما مُدّدت الولاية لتبرير أسفاره.
كلّما ناب رئيس للأركان عن القائد ودُعي قائداً للجيش بالوكالة في غياب الأصيل مؤقتاً بداعي السفر أو المرض أو التوزير، لم يدخل مرة إلى مكتبه في غيابه ولا مارس منه صلاحياته. توسّع العُرف المُنشأ قبل أن يمسي في صلب القانون، ما قبل اتفاق الطائف وما بعده، منذ أول رئيس لأركان الجيش هو الزعيم توفيق سالم بحلوله محل قائده اللواء فؤاد شهاب بعد انتخابه رئيساً للجمهورية في 31 تموز 1958. في ما بعد، اعتاد رؤساء الأركان ملء التغيّب المؤقت. بعد اتفاق الطائف، رغم وضوح أحكام المادة 21 في قانون الدفاع، راجَ تقليد قضى بحلول رئيس الأركان في منصب قائد الجيش المنتخب رئيساً للجمهورية كي يستمر فيه إلى أن يُنتخب قائد جديد في العهد الجديد. أدمجت الحال هذه، باسم الضرورات تبيح المحظورات، بين الغياب المؤقت والشغور النهائي، ما كرّس واقعاً شائعاً. ذلك أن انتخاب قائد للجيش رئيساً للجمهورية يُشغر الموقع نهائياً. ليس مؤقتاً ولا ظرفياً. على نحو نهاية الولاية بإحالته إلى التقاعد أو الوفاة أو الاستقالة.
السابقة كانت بتسلّم رئيس الأركان اللواء سمير القاضي، القيادة شهرين وتسعة أيام بين انتخاب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية في 15 تشرين الأول 1998، وتعيين قائد للجيش هو العماد ميشال سليمان في 21 كانون الأول. تكررت بحلول رئيس الأركان اللواء شوقي المصري في القيادة بعد انتخاب سليمان رئيساً للجمهورية في 25 أيار 2008، مستمراً فيها وكالة ثلاثة أشهر وثلاثة أيام انتهت بتعيين العماد جان قهوجي قائداً للجيش في 29 آب. آنذاك، بسبب الخلاف في مجلس الوزراء وانقسامه على نفسه حيال المرشح لقيادة الجيش، لم يُصَر إلى تعيين قهوجي سوى في الجلسة الثالثة.
المألوف تقليدياً في مثل هذه الحال، وهو في الأصل تاريخي، امتياز يُعطى لرئيس الأركان عندما يحلّ محل القائد في غيابه. ما إن يراكم ستة أشهر في إشغال المنصب وكالة، يمتلك حق الحصول على تعويضات قائد للجيش عند إحالته إلى التقاعد. ذلك ما يصحّ أيضاً على المديريات العامة في الأسلاك الأمنية الأخرى، كالأمن العام وقوى الأمن الداخلي وأمن الدولة. بعض قادة الجيش، رغبة منه في تسهيل استفادة رئيس الأركان المتعاون معه في حقبته من التعويضات الإضافية لنهاية الخدمة، راح يتعمّد التغيّب المؤقت في الخارج مُدداً أطول لتمكينه من مراكمة الأشهر الستة المطلوبة.