استفاقة مصطنعة إلى التوحّش: العدو يغسل يديه من «غوانتانامو غزة»
أوقفت دولة الاحتلال، وسائل الإعلام المحلية والدولية، أمس، على قدمٍ واحدة، وهي تتابع أحداث معتقل «سديه تيمان» السيّئ السمعة. وحدّد الإعلام الإسرائيلي بداية مسلسل التعذيب - الذي لم يتوقف أصلاً -، بإصابة أحد الأسرى الفلسطينيين بالشلل نتيجة اعتداء جنسي جماعي مارسه بحقه 10 من جنود الاحتياط الذين يخدمون في المعتقل، ثم أصدرت الشرطة العسكرية قراراً باعتقالهم، إثر فتحها «تحقيقاً بإيعاز من النيابة العسكرية». وفي غضون ذلك، دار الحديث عن مواجهات بين الجنود الذين رفضوا الانصياع لأوامر الاعتقال والتحقيق، وعناصر الشرطة العسكرية. وحتى يبدو الحدث وكأنه عفوي وانفلت من القدرة على السيطرة، تظاهر العشرات من المستوطنين أمام السجن، ثم اقتحموا جدرانه، ليس انتصاراً للإنسانية ورفضاً للتوحش قطعاً، إنما دفاعاً عن مرتكبي جريمة الاغتصاب والتعذيب.وأعقب ذلك احتجاج من وزراء وأعضاء في «الكنيست» على ما سمّوه التحقيق مع «الجنود الأبطال»، علماً أن الحادثة المشار إليها أعلاه، سبقها استشهاد أكثر من 40 معتقلاً تحت التعذيب في السجن نفسه. كما حاول مستوطنون، بمشاركة أعضاء «كنيست»، اقتحام قاعدة «بيت ليد»، حيث اقتيد الجنود التسعة للتحقيق، بينما هناك جندي آخر مشتبه فيه لم يتم إيقافه بعد. ومن جهته، اعتبر وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، أن «مشهد وصول أفراد شرطة عسكرية من أجل اعتقال أفضل أبطالنا في سديه تيمان هو ليس أقل من مخزٍ». كما أعلن أعضاء «الكنيست»، عن أحزاب «الليكود» و«الصهيونية الدينية» و«عوتسما يهوديت»، دعمهم للجنود الذين عذّبوا المعتقل الفلسطيني. ومن بين هؤلاء، قال ألموغ كوهين، من حزب بن غفير، إنه «على وشك الوصول من أجل الوقوف إلى جانب الذين أرسلناهم إلى هذه المهمة. ولا أعتزم السماح بحملة الملاحقة المهينة ضد جنودنا المقدّسين». كذلك، رأى تسفي سوكوت، من حزب «الصهيونية الدينية» برئاسة بتسلئيل سموتريتش، أن «هذا التعامل مع جنودنا الذين يحاربون من أجلنا في سديه تيمان يجب أن يتوقف الآن»، فيما قال سموتريتش إن «جنود الجيش الإسرائيلي يستحقون الاحترام. جنود الجيش لن يُعتقلوا كمجرمين. أدعو المدعية العسكرية إلى أن تنزل يديها عن جنودنا الأبطال».
وبعد وقوع المواجهات والضجة التي أثيرت حولها، أعلن جيش الاحتلال أن «الحدث في سديه تيمان انتهى، وأن الشرطة العسكرية غادرت المكان، وتم توقيف من تعيّن توقيفه. ولا يوجد (جنود) معتقلون، وهذا كان توقيفاً من أجل التحقيق». وأصدر مكتب رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بياناً بعد 3 ساعات من اندلاع تلك المواجهات، طالب فيه بـ«تهدئة الأجواء»، ودان اقتحام القاعدة العسكرية. غير أن المستوطنين المحتجين أمام قاعدة «بيت ليد» تمكّنوا، في ساعات المساء، رغم إطلاق قنابل الغاز عليهم، من اقتحام المحكمة العسكرية في القاعدة، وفقاً لموقع «واللا». وإزاء ذلك، قال وزير الحرب، يوآف غالانت، إن «اقتحام المدنيين قواعد الجيش حدث خطير للغاية يضر بشدة بالديمقراطية، ويصبّ في مصلحة أعدائنا أثناء الحرب»، داعياً «الشرطة الإسرائيلية إلى التحرك فوراً ضد مخالفي القانون».
على أن ما حدث أمس لا يمكن فصله عن ذيوع الصيت السيئ للوحشية التي تمارس بحق الأسرى منذ بداية الحرب، والتي كشف عن جوانب منها محامي «هيئة شؤون الأسرى» الفلسطينيين، خالد محاجنة، خلال الزيارات التي قام بها لمعتقلَي «عوفر» و«سديه تيمان»، فضلاً عن الشهادات التي يحكيها الأسرى الذين أُفرج عنهم أخيراً من سجون الاحتلال، والتي لا تشير فقط إلى وجود حالات تعذيب شاذة أو فردية، إنما إلى تعذيب جسدي ونفسي ممنهج، يمارسه سجّانو جيش الاحتلال بلا رقابة أو قيود رادعة من أحد، إذ مُنح السجانون، منذ بداية الحرب، تصريحاً مفتوحاً لممارسة كل أساليب التعذيب، بما فيه الجنسي، بحق الأسرى. وكانت بقيت أكثر تلك الأساليب حبيسة مع الشهود الأولين عليها، لكن عندما بدأ الإفراج التدريجي عن بعض المعتقلين، عقب أكثر من 50 يوماً من الاعتقال، خرجت الشهادات، لا بل وخرج معها الأسرى المفرج عنهم وهم أشبه بالهياكل العظمية، بينما فقد بعضهم عقولهم تماماً من هول ما لاقوه.
لكن مسرحية أمس، وما رافقها من تظهير ردود الفعل الرسمية والمجتمعية في دولة الاحتلال، والتي رفضت اعتقال الجنود أو أيّدت التحقيق معهم ورفضت شكل المساءلة فقط، تدلّل على أن المؤسسة الأمنية والقضائية في دولة الاحتلال، ومن خلفها وسائل الإعلام، تدير في الوقت الحالي أكبر حملة للتلاعب في الوعي العالمي، أو بالانطباع الذي تشكّل أخيراً تجاه إسرائيل، بوصفها كياناً يمارس الإجرام والإبادة الجماعية، إذ تريد مؤسسة الجيش التي أُدرج عدد من أعضائها وجنودها في قائمة المدانين بارتكاب جرائم حرب، غسل نفسها من المسؤولية الرسمية عن سلوك التعذيب الهمجي والإجرامي في السجون، وتجنب أي مساءلات قانونية في «محكمة العدل الدولية»، وخصوصاً بعد ورود أدلة كثيرة حول ما يحدث في «سديه تيمان» وغيره من المعتقلات.
أيضاً، يبدو أن هذه المسرحية تستهدف صرف النظر عن المجازر التي تُرتكب بشكل يومي وعلى مدار الساعة بحق المدنيين في كل مناطق القطاع، فيما أضحى قتل العشرات من الأطفال داخل مدرسة إيواء، حدثاً عادياً، وتحول قصف البيوت على رؤوس سكانها الآمنين بدافع الافتراض بأن أحد سكانها ينتمي إلى حركة «حماس»، إلى مسألة عرَضية. وإلى جانب ذلك كله، تمرر إسرائيل من خلال ادعاء مساءلة الجنود المسؤولين عن التعذيب، سلوك التهجير الجماعي الذي تمارسه مؤسسة الجيش بشكل رسمي.
ورداً على الانتهاكات في «سديه تيمان»، طالبت حركة «حماس» بـ«لجنة تحقيق دولية، للتحقيق في هذه الجرائم الفظيعة والوحشية» بحق الأسرى، لافتة إلى أن ما يلقاه الأسرى هناك «من عمليات تعذيب ممنهجة بأيدي الساديين الصهاينة من ضباط وجنود جيش الاحتلال، يؤكّد طبيعة هذا الكيان الاحتلالي المارق عن القيم الإنسانية، وضرورة أن تتوجه أنظار العالم والأمم المتحدة والمؤسسات الحقوقية، نحو معتقلات الاحتلال والمغيّبين فيها، لمتابعة أوضاعهم ومصيرهم المجهول». وأضافت، في تصريح صحافي، أن «هذه الجرائم الفظيعة ضد أسرانا تستدعي تدخلاً دولياً فورياً لوقفها، وإضافتها إلى ملف جرائم الحرب والإبادة للكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، واتخاذ خطوات جادة لملاحقة ومحاسبة هؤلاء النازيين على جرائمهم ضد الأسرى وانتهاكاتهم الفظيعة للقانون الدولي».