معضلة العدو المركّبة: كيف نستمر في غزة ونعطّل جبهة لبنان؟
التدقيق في مجريات اليومين الماضيين جنوباً يظهر أن المقاومة، منذ اغتيال القائد الجهادي طالب عبدالله، تستخدم كثافة نارية ذات بعد ردعي، تتضمّن رسالة واضحة باستعدادها لمواجهة أي شكل جديد من التصعيد يدور في خلد الإسرائيليين. وبالتالي، فإن الإطار العام للمواجهات الجارية الآن، من قبل الطرفين، يفيد بأن الأمر لا يزال في الإطار نفسه، مع ضغط متزايد من جيش الاحتلال على حكومة العدو لتوسيع هامش عمله العسكري والأمني ضد حزب الله.لكنّ القلق من تدهور الأمور إلى مواجهة أكبر، ليس مصدره ما تقوم به المقاومة، بل احتمال لجوء العدو إلى تصعيد يقوم على فرضية توسيع ولو محدود لرقعة المواجهة، وزيادة في منسوب الأهداف البشرية أو العسكرية أو المدنية، إذ إن ذلك سيفرض على المقاومة إدخال تغييرات جوهرية على برنامج عملها ولو أدّى الأمر إلى مواجهة أكبر. هذا السقف المتحرّك يمثّل اليوم نقطة الارتكاز في حركة الراغبين بمنع المواجهة، وقد يفسر الاتصالات التي تقوم بها عواصم عربية ودولية مع طرفي النزاع لعدم التدحرج نحو حرب واسعة.
مع ذلك، لا تجد الاتصالات علاجاً لمعضلة العدو الرئيسية. صحيح أن مسؤولاً بخبرة بنيامين نتنياهو لا يمكن إخضاعه لرغبات قيادات عسكرية أو سياسية شعبوية، إلا أنه يحتاج إلى مساعدة الأميركيين والأوروبيين والعرب لإقناع حزب الله بالتوقف عن مهاجمة قواته. وبعد ثمانية أشهر، بات واضحاً لنتنياهو، وللوسطاء، بأنه لا وقف لعمليات حزب الله إلا بوقف الحرب على غزة. لذلك، فإنه قد يبدي استعداداً للسير في نصائح وتصورات قيادات عسكرية وأمنية تدعوه إلى «عمل كبير» ضد حزب الله، علّ ذلك يجرّ الحزب صاغراً إلى مفاوضات تنتهي بتسوية تفصل جبهة لبنان عن جبهة غزة.
هذا الاحتمال وحده كافٍ لإثارة قلق الأطراف المنخرطة في الاتصالات، ومنها الأميركي الذي يرفق دعوته إلى إنهاء العمليات العسكرية الكبيرة في قطاع غزة، بطلب عدم الذهاب إلى مواجهة أكبر مع لبنان. لكن، في الوقت نفسه، يدعو الأميركيون والأوروبيون إلى عدم تجاهل إمكان لجوء العدو إلى «عمل متهوّر» ضد لبنان. ويفسّر هؤلاء قلقهم بأن قوات الاحتلال التي خاضت حرباً طويلة، تقول إنها مستعدّة لتحمل أثمان إضافية جراء معركة كبرى مع لبنان، مع إدراكها بأنها، في هذه الحالة، تحتاج إلى دعم سياسي وعسكري كبير من الغرب ولا سيما الولايات المتحدة.
ومع ذلك، لا تشير المعطيات الميدانية إلى انتقال قوات كبيرة من جيش الاحتلال إلى الجبهة الشمالية، رغم أن الجميع متفق على قرب توقّف العدو عن تنفيذ العمليات الكبيرة في غزة، بما في ذلك الإعلان عن انتهاء عملية رفح، ما يمنحه هامشاً ميدانياً إضافياً في جبهة الشمال، ولو أن حسابات الحرب مع حزب الله تختلف كلياً عنها في غزة. وهنا، يمكن التوقف عند ما كتبه مدير معهد دراسات الأمن القومي، تامير هايمن، الذي عاد إلى «رؤية عمل الجيش» (استراتيجية الجيش، نيسان 2018) التي تقول: «إن الجيش سيدافع عن دولة إسرائيل على جميع الجبهات في وقت واحد، لكنّ الحسم في مواجهة الأعداء سيكون بالتدريج، ما يعني أنه من غير المحبّذ أن يحسم الجيش القتال على جبهتين في الوقت نفسه». ولذلك ينصح هايمن قادة العدو بضرورة «بدء الحرب بتعريف وضعية نهايتها وما ستؤول إليه على يد المستوى السياسي. وعلى القيادة أن تقرر كيف ستنتهي الحرب قبل الدخول فيها».
بالتالي، فإن الخلاصة المنطقية لمجريات الأمور الآن يمكن اختصارها بالآتي:
أولاً، يبدو أن العدو ليس في وارد إنهاء الحرب في غزة والانسحاب من القطاع والذهاب نحو صفقة مع حماس. وهذا يعني أن جيشه سيبقى متورّطاً في حرب استنزاف بمعزل عن شكلها وآلياتها ومساحتها، وهي حرب قد تطول لأشهر إضافية.
ثانياً، استمرار الحرب في غزة يعني، تلقائياً، استمرار جبهات الإسناد للمقاومة في لبنان واليمن والعراق، ما يوجب على العدو ليس التكيّف مع شكل جديد من القتال في غزة، بل الاستعداد لنسخة جديدة من حرب الاستنزاف على جبهات الإسناد.
ثالثاً، إن صورة الإنجازات التكتيكية لجيش الاحتلال في جنوب لبنان، عبر اغتيال مقاومين من مستويات عسكرية متفاوتة، لا يمكن جمعها لتعطي العدو إنجازاً استراتيجياً، بل، على العكس، قد تفرض مساراً مختلفاً عما يفكّر به. وبالتالي، سيصبح السؤال أمام حكومة العدو هو : ما نفع الاغتيالات الكبيرة إن لم توقف الحرب؟
رابعاً، برنامج عمل المقاومة في لبنان يتخذ أشكالاً متنوعة تحاكي سلوك العدو، ويؤكد أن الاغتيالات لا تؤثّر سلباً على أداء المقاومين في الميدان، عدا أنها لا تشكل عنصر ردع للقيادة السياسية، وهو أمر خبره العدو طوال أربعة عقود. وبالتالي، فإن قدرة المقاومة على التكيّف تصبح أكثر فعالية. وهو ما بدا في موجة العمليات التي حصلت في الأيام الثلاثة الماضية، اذ لم يقتصر الأمر على تكثيف الضربات القاسية ضد كل المنشآت العسكرية والأمنية لجيش الاحتلال في كامل القطاع الشرقي من الجبهة (المماثل للقطاع الشرقي في لبنان، والذي تحت إدارة الشهيد أبو طالب)، بل عمدت المقاومة إلى اعتماد أساليب تظهر الاستعداد لاحتمال قيام العدو بغزو بري. ويمكن لقادة العدو العسكريين قراءة خلفية العملية التي استهدفت موقع الراهب أول من أمس، حيث استُخدمت أسلحة رشاشة من العيار الثقيل، مثبّتة على آليات تتحرك على بعد مئات الأمتار من الموقع الذي قُصف أيضاً بقذائف خاصة من الهاون، استخدمتها المقاومة للمرة الأولى، وهي ذات مفعول مخيف على تجمعات الجنود وانتشارهم.
عملياً، نحن أمام مسار غير مستقرّ للمواجهة على حدود لبنان مع فلسطين. وأهل القرار في العواصم الكبرى يخشون المآلات الغامضة لأي مواجهة كبيرة، وهو ما يفسر الاستنفار الدبلوماسي الفرنسي - الأميركي، من إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الخميس، أن قادة «مجموعة السبع» اتفقوا في قمتهم، على تشكيل لجنة ثلاثية تضم إسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا لبحث خارطة طريق فرنسية لنزع التوتر بين حزب الله وإسرائيل، إلى الاعلان أمس عن أن المبعوث الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتين سيزور كيان العدو الإثنين المقبل لبحث «سبل منع تدهور الأوضاع إلى حرب شاملة مع لبنان».