صندوق النقد للبنان: التقشّف وحده غيرُ كافٍ
أنهت بعثة صندوق النقد الدولي جولتها على المسؤولين اللبنانيين وبعض ممثلي القطاع الخاص، ببيانٍ صوّب بشكل صريح على عدم اتخاذ السلطات اللبنانيّة الإجراءات المطلوبة لتجاوز الأزمة الماليّة. لقاءات الصندوق طوال الأسبوع الراهن عكست تشجيع البعثة لبعض الإجراءات التي قام بها مصرف لبنان، بالتعاون مع وزارة الماليّة، وخصوصًا تلك التي قيّدت اقتراض الحكومة من مصرف لبنان. وبشكل عام، يبدو أنّ بعثة الصندوق باتت أكثر ارتياحًا لموقع مصرف لبنان في المعادلة الداخليّة، من جهة نوعيّة السياسات النقديّة التي تتبناها القيادة الجديدة، منذ انتهاء ولاية الحاكم السابق رياض سلامة. كما يبدو أن الصندوق وجد جناحًا عقلانيًا داخل القطاع المصرفي، يمكن التحاور معه.
ومع ذلك، أصرّت بعثة الصندوق في لقاءاتها كافّة، وفي بيانها الختامي، على التذكير بعدم كفاية كل هذه الإجراءات. التقشّف في الإنفاق، وإبعاد يد الحكومة عن سيولة مصرف لبنان، يمكن أن يساهما في ضبط سعر الصرف وحماية الاحتياطات على المدى القصير. لكنّ طريق التعافي المالي، على المدى الأبعد، يحتاج إلى سلّة أوسع من الإصلاحات، وتحديدًا تلك التي تتعامل مع الأزمة المصرفيّة وتحديات إعادة هيكلة القطاع المالي. ولذلك حرصت البعثة على التذكير بخطورة استمرار الوضع على ما هو عليه، بما يشمل استمرار تنامي الاقتصاد غير النظامي والاقتصاد النقدي.
الرضا عن "قيادة" مصرف لبنان الجديدة
لم يكن مستغربًا رضا الصندوق عن السياسات الجديدة المتبعة في مصرف لبنان. فوقف العمل بمنصّة صيرفة سيئة الذكر، لطالما كان مطلبًا رفعته جميع المؤسسات الدوليّة، التي تحوّلت خلال حقبة رياض سلامة إلى منصّة مضاربة على الدولار الأميركي.
ومن هذه الزاوية، كان مفهومًا إطراء بعثة الصندوق خلال زيارتها الراهنة على خطوة إلغاء المنصّة، ومن ثم اتجاه المصرف المركزي إلى الحد من ظاهرة تعدّد أسعار الصرف قدر الإمكان. وإلغاء التباين بين سعر السوق الفعلي، والسعر المعتمد من مصرف لبنان، كان أساسًا مطلب الصندوق منذ البداية، تمهيدًا لخطوة توحيد أسعار الصرف بالكامل. وهذا ما حققته خطوة إلغاء المنصّة.
على النحو نفسه، كان متوقعًا أيضًا إطراء البعثة على خطوة وقف تسليف الحكومة، من أموال المصرف المركزي. فهذه الخطوة تنسجم مع التوجّهات التقشفيّة التي يتبناها الصندوق في العادة، والتي تركّز على ضبط الإنفاق العام والحد من تداعياته السلبيّة على مستوى السياسة النقديّة. وهذا التوجّه كان واضحًا في بيان البعثة الختامي يوم أمس، الذي تحدّث صراحة عن أهميّة "السياسة الماليّة المتشدّدة"، في إشارة إلى نمط لجم الإنفاق الحكومي المتبع في الوقت الراهن.
لكن بعيدًا عن الكلام الرسمي الذي تضمّنه البيان، تسرّب من لقاءات البعثة طوال الأيّام الماضية شعورها بوجود تقدّم في مقاربة المصرف المركزي للأزمة المصرفيّة نفسها، وباتجاه المصرف نحو قراءة أكثر واقعيّة لمشكلة القطاع. وهذا ما يختلف طبعًا عن العلاقة المتوتّرة جدًا ما بين الحاكم السابق رياض سلامة من جهة، وصندوق النقد ومعظم المؤسسات الدوليّة المعنيّة بالملف اللبناني من جهة أخرى. فالحاكم السابق، كان رأس الحربة الأهم في إسقاط أي خطّة حكوميّة جرى إعدادها أو تحديثها وفقًا لمعايير صندوق النقد وشروطه، ابتداءً من خطة لازارد عام 2020.
خطورة الاقتصاد غير المنظّم والاقتصاد النقدي
في مقابل التفاؤل الحذر إزاء إجراءات مصرف لبنان الأخيرة، أسهبت البعثة خلال لقاءاتها في التحذير من محدوديّة هذه الخطوات. فالمشكلة الأهم تبقى فجوة الخسائر المصرفيّة، التي تنتظر معالجتها وفق قانون خاص لإعادة هيكلة القطاع. ومن دون معالجة هذه الأزمة، سيبقى القطاع المالي بعيداً عن توفير أبسط الخدمات التي يحتاجها الاقتصاد المحلّي، فيما سيستحيل أن تحقّق البلاد أي تقدّم في مسار التعافي المالي.
البيان الختامي للبعثة، عاد ليشدد على المعايير المعتادة نفسها، التي يتبناها الصندوق بالنسبة إلى مسار إعادة الهيكلة: حماية صغار المودعين إلى أقصى حد ممكن، والحد من استعمال الأموال العامّة، ومعالجة الخسائر بشكل فوري. وبهذا الشكل، ردّت البعثة -بشكل غير مباشر- على جميع الشائعات التي أشارت إلى صندوق النقد تراجع عن بعض شروطه، بما يخص عمليّة إعادة الهيكلة، في إشارة إلى الإصلاحات التي تعهّد لبنان بالقيام بها في إطار الاتفاق على مستوى الموظفين مع الصندوق.
لكنّ أهم ما سمعه المسؤولون اللبنانيون، كان تحذير الصندوق من تفشّي الاقتصاد النقدي في السوق اللبناني، ومن دور هذا العامل في رفع مخاطر تبييض الأموال والعمليّات غير المشروعة. وهذه الظاهرة، التي جاءت كنتيجة لاستمرار الأزمة المصرفيّة منذ العام 2019، ستكون السبب الرئيسي لاحتمال إدراج لبنان على القائمة الرماديّة لمجموعة العمل الدولي. وهذا ما يعيد البعثة مجددًا إلى خلاصة الزيارة الأهم: يمكن لإجراءات مصرف لبنان أن تستوعب بعض تداعيات الأزمة، لكنّها ستبقى محدودة قياسًا بما هو مطلوب، وقياسًا بالنتائج التي ستترتّب على بقاء الوضع على ما هو عليه.
الحوار مع المصارف
طوال اليومين الماضيين، حفلت الأوساط المصرفيّة بنقاش صاخب حول الغداء الذي جمع بعثة الصندوق ببعض إداريي ومساهمي القطاع المصرفي. فهذا الغداء الذي دعى إليه بنك عودة، ضمّ مجموعة من رموز القطاع الأكثر انفتاحًا على مقاربة الصندوق، بينما استثنت الدعوة مجموعة من "صقور" المصارف الأكثر عداوة لهذه المقاربة.
وهذا ما أثار حفيظة مجموعة من المصرفيين الذين وجدوا أنّ بنك عودة انفرد بهذه الدعوة التي تشق صفّ المصارف، في لقاءاتها ومداولاتها مع صندوق النقد الدولي. كما وجد هؤلاء أنّ الدعوة همّشت دور جمعيّة المصارف نفسها، التي يفترض أن تلعب دور "اللوبي" الرسمي الذي يمثّل القطاع.
بعيدًا عن تحفّظات المصارف، مثّل الغداء أوّل خطوة صريحة تعكسُ ليونة من جانب كبرى المصارف الناشطة في السوق اللبناني، التي تملك القدرة على إعادة الرسملة، وضمان الحد الأدنى من كل وديعة موجودة لديها. وهذا ما يحيّد تلقائيًا بعض المصارف الأصغر حجمًا، القابضة على قرار جمعيّة المصارف، والتي عرقلت -خلال السنوات الماضية- الحلول والخطط المتجهة نحو إعادة هيكلة القطاع.
قناة الحوار المستجدة بين حمائم المصارف وصندوق النقد، قد تمثّل اختراقًا يؤسّس لحل ما، بعدما قامت جمعيّة المصارف منذ العام 2020 بشيطنة مقاربات صندوق النقد للأزمة المصرفيّة. مع الإشارة إلى أنّ مجرّد قبول البعثة بتلبية دعوة بنك عودة، ومن خارج إطار جمعيّة المصارف، مثّل بحد ذاته رسالة بالغة الأهميّة لمن يعنيهم الأمر.
الإيرادات العامّة غير كافية
أخيرًا، وفي ما يخص السياسة الماليّة التي اتبعتها الحكومة خلال الأشهر الماضية، وجدت البعثة بعض الإيجابيّات، ومنها تصحيح أسعار الصرف المعتمدة لاستيفاء الرسوم الضريبيّة والجمركيّة. ومع ذلك، ما زال الصندوق يجد أن حجم الإيرادات العامّة غير كافٍ لتفعيل الإدارة العامّة، وهو ما يتصل بضعف مستويات الامتثال الضريبي. وبذلك، يعود الصندوق للتأكيد على الخلاصة نفسها، والتي تفيد بعدم كفاية التقشّف وحده، من دون وضع الإصلاحات الكفيلة برفع حجم الإيرادات العامّة وتلبية حاجات الإنفاق الاجتماعي.
في النتيجة، وبانتظار تقرير البعثة الرابعة المتوقّع خلال شهر أيلول المقبل، لن يكون متوقّعًا أن يشهد لبنان أي جديد في ملف التفاوض مع صندوق النقد الدولي. فغالبيّة الشروط التي تم التفاهم عليها في إطار الاتفاق على مستوى الموظفين ما زالت حبرًا على ورق، بعدما وجدت السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة ما يكفي من أعذار لعرقلة كلٍّ منها. أمّا السلطة النقديّة، وإن نالت هذا الإطراء من بعثة الصندوق، فما زالت مسؤولة عن فقدان أي رؤية لكيفيّة معالجة الأزمة المصرفيّة، بعدما سحبت يدها من آخر مسودّات مشروع إعادة هيكلة المصارف، من دون أن تقدّم حتى اللحظة أي مقترح بديل يُذكر.