بالأرقام: العقد السرّي لمكننة مرفق العدالة في لبنان

يشكّل مشروع التحوّل الرقمي ومكننة محاكم لبنان أحد أبرز الإصلاحات التي دأب وزراء العدل المتعاقبون على تنفيذها، بهدف تحسين مرفق العدالة وتعزيز الشفافيّة داخل قصور العدل. إلّا أن مشروع مكننة العدلية الذي دخل حيّز التنفيذ في أيلول 2024، يثير التساؤلات القانونية والإدارية والأمنيّة، خصوصاً بعد امتعاض وزير العدل السابق هنري الخوري من تسليط "نداء الوطن" الضوء على "عقود مشبوهة تحوم حول مكننة العدلية".
وبعد تشديد الوزير السابق عبر "صار الوقت" على أن "الوزارة لم توقّع عقوداً، ولا أي دائرة أو جهاز تابع لها وقّع على الإطلاق"، وتجنّباً لتضليل المعنيين، تنشر "نداء الوطن" تفاصيل "العقد السرّي" التي طلبت الوزارة من صندوق تعاضد القضاة إبرامه مع "شركة لبنان للتجارة والصناعة" CIEL، لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد.
وتبدأ الريبة، بالشكل والقانون، بعد التفاف وزارة العدل أو التحايل على مندرجات المرسوم 4168/1993 المرتبط بـ "إنشاء مركز المعلوماتية القضائية والقانونية في وزارة العدل"، وتخطي المادة الثانية من المرسوم، التي تشير بوضوح إلى وجوب "التنسيق مع مجلس القضاء الأعلى"؛ والطلب من مؤسسة عامة (صندوق تعاضد القضاة) تتمتع بشخصية معنوية واستقلال إداري ومالي، وتخضع لوصاية وزير العدل إدارياً، إبرام العقد وتقاضي أموال لشركة تجاريّة خاصة CIEL، يقتطع الصندوق نسبة ضئيلة منها، لقاء خدمة يقدّمها، وذلك دون فتح باب المنافسة واستدراج العروض والعلانيّة المطلوبة لإبعاد الشبهات عن مشروع بهذا الحجم والمسؤولية.
المشروع الذي يشكل حاجةً ومطلباً أساسياً لروّاد العدالة، يطرح تساؤلات حول طبيعة الرقابة الحكومية والقضائية والأمنيّة، كما حول حماية أمن بيانات المواطنين والمتقاضين، بعدما أعطى شركة CIEL تنفيذ هذا المشروع "التجاري" بشكل كامل، وتقاضى مالاً يطيح بفكرة الهبة، كما بالحديث فقط عن اعتمادها كمقدم خدمة "التوقيع الإلكتروني المعزز"، أي الخدمة التي لا توجد شركة بإمكانها منافستها راهناً في لبنان.
وفي السياق، توضح مصادر مطلعة على عمل صندوق تعاضد القضاة لـ "نداء الوطن"، أن النسبة الضئيلة التي يقتطعها هي بدل الخدمة التي ينفذها، ولكونه "ليس كاريتاس يقدّم خدمات بالمجان للوزارة" وتقول: "هل الصندوق بدو يراقب وزارة العدل... لا علاقة للصندوق بالعقد والوزارة تدرك إذا كان ما تقوم به قانونياً أو غير قانوني... والصندوق ينفّذ ما طُلب منه".
تفنيد عائدات الاشتراك
على الرغم من وصف المشروع بأنه مجاني للقضاة والموظفين، إلّا أن المحامين وأصحاب العلاقة مطالبون بدفع 850 دولاراً كبدل اشتراك سنوي، تمكنت "نداء الوطن"، بعد تنصّل صندوق تعاضد القضاة من تقديم أي معلومات عن الملف ورمي الكرة في ملعب وزارة العدل التي تنفي بدورها وجود عقد من الأساس؛ من الحصول على كيفيّة توزيع تكاليفه السنويّة، كما يلي:
140 دولاراً لاشتراك المحامين في التوقيع الرقمي المعزز (Hybrid).
75 دولاراً لتوثيق البريد الإلكتروني وتشفير الرسائل.
397 دولاراً لتوقيع Qualified Signing Signatures (QSS).
50 دولاراً للتدريب على التطبيق.
50 دولاراً لتقديم المراجعات والإرشادات.
24 دولاراً لتمديد الإنترنت وتأمين موظفي غرفة العمليات.
30 دولاراً لصندوق تعاضد القضاة، ومن خلاله تغطية التكاليف التشغيليّة.
84 دولاراً ضريبة على القيمة المضافة (TVA).
وبحسب المعلومات المسرّبة، فإن الهبة التي يتلطّى وراءها المعنيون، تقتصر على إجمالي قيمة الاشتراكات لـ 700 قاضٍ، و1200 موظف؛ فيما الرهان على اشتراك ما لا يقل عن 5000 محامٍ من أجل تأمين تكاليف وسبل إنجاح المشروع، وهذا ما يطرح تساؤلات جمّة في ظل الغموض المحيط بالإشراف على المشروع.
وهذا ما دفع هيئة الشراء العام في اليوم التالي لطرحنا الموضوع، إلى الطلب من وزارة العدل بتاريخ 5 شباط 2025، إيداعها المستندات المتعلقة بالتعاقد، وتوضيح أسباب عدم إجراء مناقصة، وعدم نشر تفاصيل التلزيم على موقعها الإلكتروني. وذلك تمهيداً للتدقيق، ونشر تقرير نهائي عند اكتمال التحقيق، ما قد يفتح المجال أمام إمكانية الطعن في العقد أو إعادة تقييم المشروع برمّته.
الملف اليوم في عهدة هيئة الشراء العام، والقضاء، ووزير العدل عادل نصّار، والرأي العام، بانتظار كشف الحقيقة الكاملة حول هذا المشروع، وما إذا كان فعلاً خطوة إصلاحية، أم تلزيماً غامضاً يحمل في طيات عقوده السريّة المشبوهة، مخاطر قانونية ومالية وتقنية على العدالة في لبنان.