اخبار لبنان اخبار صيدا اعلانات منوعات عربي ودولي صور وفيديو
آخر الأخبار

الدولة العميقة قلقة: لماذا تخيفها المرحلة المقبلة؟

صيدا اون لاين

في لبنان دولة عميقة. تمتد خيوطها في جميع مفاصل النفوذ الأمنيّة والقضائيّة والماليّة والنقديّة. وتربطها، بل تحرّكها، مصالح اقتصاديّة وماليّة كبرى، بما فيها تلك المتجذّرة داخل القطاع المصرفي، أو كبرى الاحتكارات والامتيازات في القطاعات التجاريّة. ثمّة ما يجمع هذه المصالح ويفرزها بمعزل عن الاصطفافات السياسيّة المألوفة. ولهذه الدولة العميقة، وما خلفها من مصالح وامتيازات، نفوذ إعلاميّ يوازي النفوذ السياسي. ولها رؤيتها وأولويّاتها المعروفة في الاقتصاد والسياسات الماليّة والنقديّة. ولها هواجسها ومعاركها التي تُخاض في كلّ مرحلةٍ وفق عنوانٍ مختلف. تتلطّى النخب الماليّة دائمًا خلف عناوينٍ ماكرة أو موارِبة. غير أنّ سؤالها الأساسي، همّها الشاغل الذي لا يُقال علنًا، هو نفسه: لمصلحة من سيعمل اقتصاد هذه الدولة ومجتمعها؟
ليس في الأمر هنا نظريّة مؤامرة. بل فهمٌ بسيط للاقتصاد السياسي وآليّات عمله. في حقبات عدّة، يمكن أن ترى تكاتف الدولة العميقة، بما يتخطّى خطوط التماس الطائفيّة أو السياسيّة المُعلنة. هذا ما يحصل عند فتح كلّ نقاش حول إعادة هيكلة المصارف، أو قانون السريّة المصرفيّة، أو عند بدايات التحقيق في الارتكابات التي حصلت في مصرف لبنان. هذا ما حصل عند فتح أي ملف يُعنى بتهريب الأموال في بدايات الأزمة، أو بالاستفادة من أموال الدعم، أو الهندسات الماليّة قبل 2019. ليست مراكز النفوذ المتكاتفة داخل الدولة، سوى انعكاس لطبيعة المصالح التي تحرّكها. ودين هذه المصالح دنانيرها، قبل أي انتماء طائفي أو سياسي آخر.

كيف نفهم هواجس الدولة العميقة؟
خاضت الدولة العميقة آخر معاركها الكبرى عام 2020، في مواجهة "خطّة لازارد" وفريق المستشارين. في المجلس النيابي، تكاتف نوّابٌ من جميع الكتل، تحت عنوان "لجنة تقصّي الحقائق"، للطعن بأرقام هذه الخطّة. قليلون يذكرون هذا، لكنّ ما قدّمه رياض سلامة أمام تلك اللجنة، لتقويض مصداقيّة أرقام "لازارد"، هو تحديدًا ما بتنا نعرفه بالأرقام المزوّرة اليوم. هو خلاصات التزوير التاريخي والممنهج في المصرف المركزي. هو تلك المعايير المحاسبيّة "غير المألوفة"، كما سمّتها شركات التدقيق العالميّة، والتي سجّلت موجودات وهميّة لتفادي الاعتراف بالخسائر المتراكمة.
كان للدولة العميقة وأذرعها في الإعلام والسياسة ما يكفي من عناوين شعبويّة لإسقاط الخطّة، التي اضطرّت حكومة دياب لصياغتها للتمكن من توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي. حملت الدولة العميقة شعارات قدسيّة الودائع، ومنع تفليس المصارف، وطبعًا: الاقتصاد الحر. سقطت الخطّة، ودخلت البلاد بعدها في أربع سنوات من "السقوط الاقتصادي الحر". مصارف زومبي، وأسعار صرف متعدّدة، ومصرف مركزي يُتاجر في السوق السوداء. كان المطلوب الحؤول دون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، واحتفاظ المصرفيين بقدسيّة رساميلهم (لا الودائع). وهذا ما حصل.
بعد تلك الحقبة، خاضت الدولة العميقة معارك متقطّعة، لكن أقل خطورة: المعركة للحد من نطاق رفع السريّة المصرفيّة، في إطار التشريعات التي اضطرّ المجلس النيابي لإقرارها بحسب شروط صندوق النقد الدولي. والمعركة القضائيّة لتطويق التحقيقات المتصلة بشبهات رياض سلامة، ومنع تمدّدها بما قد يكشف خبايا المرحلة السابقة. ومحاصرة أي تحقيق مرتبط بالأنشطة المصرفيّة في بدايات الأزمة أو قبلها. كانت تلك المعارك بسيطة، قياسًا بقوّة الدولة العميقة وسطوتها داخل المجلس النيابي والنظام القضائي ومصرف لبنان. مرّت سنوات الأزمة "على خير"، ولم تحصل أي مواجهة كبرى منذ العام 2020.
غير أنّ تفادي المعارك لا يعني التخلّص منها. ما زالت الاستحقاقات تنتظر التعامل معها: ماذا ستفعل الدولة بكتلة خسائر القطاع المصرفي؟ ومن سيتحمّل كلفة هذه الخسائر؟ كيف ستتم إعادة هيكلة الدين العام، من دون خطّة تعافي شاملة؟ وكيف السبيل للتعامل مع شروط صندوق النقد الدولي، الذي لن يقبل أقل من خطّة ذات مصداقيّة، قبل توقيع الاتفاق النهائي مع لبنان؟ تُركت هذه المعارك نائمة، بانتظار لحظة الحقيقة، الذي على ما يبدو جاءت اليوم.

خوف الدولة العميقة اليوم
خلال الأيّام الماضية، بدا أنّ الدولة العميقة بدأت بتلمّس مخاطر المرحلة المقبلة عليها. بل بعبارة أدق: باتت تخشى من العودة إلى مرحلة العام 2020، أي إلى مرحلة الاضطرار لخوض المواجهات الكبرى. يمكن تلمّس ذلك من الحملات الإعلاميّة التي تُخاض ضد الرئيس المكلّف، إمّا باتهامه باليساريّة، أو بالتحذير من "المستشارين" الإصلاحيين الذي يتحضّرون للعب أدوارٍ سياسيّة في المرحلة المقبلة (وهم بالمناسبة، ليبراليون جدًا). وفي جميع الحالات، تتكرّر نفس الشعارات الشعبويّة التي تم اعتمادها لإسقاط الخطط الإصلاحيّة السابقة: قدسيّة الودائع، والتحذير من شروط صندوق النقد والإصلاحات التي يطلبها الخارج، والتمسّك بسلامة القطاع المصرفي ومنع تفلسيه...إلخ.
ثمّة ما تخشاه الدولة العميقة، ومن خلفها اللوبيات الماليّة التي تملك القدرة على شنّ هذه الحملات. وأوّل ما تخشاه، هو رئيس حكومة مكلّف آتٍ من دائرة بعيدة عن التركيبة السياسيّة والماليّة القائمة، ومن فريق عمل قد يكون بعيدًا عن هذه التركيبة أيضًا. ورغم أنّ رئيس الجمهوريّة يبدو للوهلة الأولى أقل بعدًا عن هذه التركيبة، أشارت خيارته لفريق العمل المحيط به إلى اتجاهه نحو سياسات إصلاحيّة على المستوى الاقتصادي. أمام هذه الثنائيّة، يصعب أن تناور النخب المصرفيّة والماليّة، على النحو الذي قامت به مع رئيس حكومة شديد الاتصال بمصالحها، مثل نجيب ميقاتي.
وهذه المرّة، وبخلاف حال حكومة حسّان دياب، تُحاط تجربة الرئيسين عون وسلام بزخم خارجي دولي، حتّى هذه اللحظة على الأقل. وهذا الزخم الدولي بالمناسبة، يتمسّك في الوقت نفسه بالإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي، ومنها بطبيعة الحال الجانب المتعلّق بإعادة هيكلة المصارف والدين العام. إنّه شبح خطّة لازارد مجددًا، وهو الكابوس الذي يؤرق النخبة المصرفيّة منذ خمس سنوات. وهذه المرّة، يعود هذه الشبح على أيدي شخصيّات أكثر شعبيّة، وأقرب إلى المشهد "الإصلاحي" والتغييري، مقارنة بمرحلة حكومة حسّان دياب، التي بدت كانتكاسة بعد ثورة 17 تشرين الأوّل 2019.

أخيرًا، أكثر ما يقلق هذه الدولة العميقة والنخب التي تقف خلفها، هو اتصال مسار التصحيح المالي بمسار لا يمكن تأجيل التعامل معه: إعادة الإعمار. هذه المرّة، ستكون مساعدات إعادة الإعمار مربوطةً بصندوق إئتماني، يجري إطلاقه على أساس خطّة متفق عليها مع البنك الدولي. وهذه الخطّة، ستكون متصلة بالإصلاحات نفسها التي يطلبها صندوق النقد الدولي منذ العام 2020. واقع من هذا النوع، سيكون أكثر ضغطًا على القوى السياسيّة، التي تواطأت منذ خمس سنوات لإفشال جميع مسارات الحل المالي.
أمام هذا الواقع، يصبح واضحًا سبب قلق النخب المصرفيّة والماليّة، وما تحرّكه من دولة عميقة وأذرع إعلاميّة. المشهد مقلق لها من جميع الجهات. ومن هذه الزاوية يمكن فهم حذر النوّاب، الأكثر اتصالًا باللوبي المصرفي، من تسمية نوّاف سلام، بمعزل عن تموضعهم السياسي التقليدي. كان بإمكان المشهد أن يكون أقلّ إثارة لقلق هؤلاء، لو جرت إعادة تسمية ميقاتي مجددًا، كرئيس مكلّف بتشكيل الحكومة.

تم نسخ الرابط