الخيام... جدران تحكي آلام غزة
ثمة واقع يمرُ ثقيلاً ومتخماً هذه الأيام على أهالي قطاع غزة، يُعيد إلى الأذهان زمن النكبة الفلسطينية بفصولها القاسية. فاللاجئون الفلسطينيون ـــ بعد مرور 76 سنة على النكبة ــــ يكتوون بآثارها السلبية ومرارتها. ومع استمرار العدوان الإسرائيلي على القطاع، تعود إلى الواجهة خيام اللاجئين التي أصبحت رمزاً للنكبة، وللشعب الفلسطيني المطرود من أرضه. بعد أكثر من عشرة أشهر على العدوان المستمرّ، شكّل النزوح والتنقل القسري المستمر للفلسطينيين بين مناطق قطاع غزة، بحسب أوامر الإخلاء، واشتداد المعارك، أزمةً كبيرة للناس في القطاع، وأثّر بشكل بالغ فيهم، يصعب مع الوقت محوه من الذاكرة!
انتبه أيّها العالم
انتشرت المخيمات كشاهد على «النكبة» الجديدة، فلم تعد مجرد أماكن للإقامة أو النوم. ولأنها كذلك، أصبحت في جانب منها، لوحات فنية تحاكي الواقع الحقيقي، يرسم عليها النازحون قصص المعاناة والحسرة، كأنّ الرسوم والكتابات على قماش الخيام، رسائل يبعثها أهلها إلى العالم الأصمّ، علّه ينتبه إلى أنّ أرواح أهل الخيام، تقاتل من أجل النجاة والبقاء. من العبارات التي رصدتها على الخيام عبر صور كثيرة «نحن نحبُّ ونستحقُّ الحياة!»، و«أيام شداد لكن الله أرحم»، و«أرضٌ خلقت للسلام»، و«على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، و«يا رب نرجع على غزة»، و«نحن ما زلنا أحياء أنقذونا» وغيرها… عبارات تمثّل روح التحدي والصمود، لكنها تؤكد أيضاً على حجم الكارثة الإنسانية التي حلّت بهم، بعد تدمير كل مظاهر الحياة في حياتهم.
الخيمة ليست قدراً
يقف هاني مقداد (45 عاماً) عند «باب» خيمته في أحد مخيمات النازحين في دير البلح، ويقول: «الخيمة ليست قدراً على الفلسطيني، وستبقى مرحلة مؤقتة ولن تطول، وما يُكتب على جدرانها بمنزلة رسالة تحدٍّ للاحتلال الذي يمارس الإرهاب والقتل والترويع لطردنا من أرضنا». ويضيف مقداد النازح من حي الشيخ رضوان في مدينة غزة: «رغم الهم الكبير الذي يستحوذ على تفكير النازحين في تأمين مقومات الحياة والصعوبات المعيشية، إلا أنهم متمسّكون بحقوقهم وقضاياهم الوطنية، ويرفضون مخطّطات الاحتلال، ويعبرون عن ذلك بتوثيق معانٍ وكلمات تؤكد على أنّ طردهم من وطنهم حلم لن يحدث في أي وقت من الأوقات».
صامدون في أرضنا
لا يختلف الأمر عند محمد المدهون الذي خطّ على «باب» خيمته: «فلسطين بنحبها وبنتحمل عشانها كل شي صار لنا». وعن عبارته ورأيه، قال لـ «الأخبار»: «ما دفعني إلى الكتابة والرسم، هو القهر الذي نعيشه بعدما وصل الاحتلال في القتل والإبادة حداً لا يقبله عقل، تجاوز فيه حدود الإنسانية والأخلاق. بعد كل جريمة أو مجزرة تحصل، أذهب لتوثيق الحدث على جدران الخيمة كي لا ننسى». ويرى المدهون أنّ «ما يكتبه على جدران الخيمة بمنزلة تحدٍّ ومتنفّس يخفّف عنه الوجع، ومحاولة للتعبير عما يجول في عقله وقلبه». ويضيف: «نحن نتألم لما أصابنا، وعاجزون أمام آلة الحرب الإسرائيلية. لكنّنا نتحلى بالصبر والصمود في وجه العدوان، ولن نتنازل عن فلسطين أبداً».
يعيش المدهون وزوجته وطفلته داخل خيمة، بعدما اضطر إلى النزوح من مدينة غزة بحثاً عن الأمان لأسرته، ويصف الواقع الإنساني الذي يزداد سوءاً مع كل يوم جديد، قائلاً «السكن في الخيام أمر يفوق طاقة التحمُّل. نحاول جاهدين أن نتحمل، وخصوصاً أنّ الاحتلال يحاول بكل قوة دفعنا إلى الهجرة، لكن هذا لن يتحقق، وسنبقى متمسّكين بأرضنا ولن نغادرها».
ومثل المدهون، كتب أحمد الطلّاع على خيمته: «أنقذوا ما تبقّى منا، نحن ما زلنا أحياء». تلخص عبارته واقعاً وظروفاً صعبة يعيشها النازحون، يقاسون فيها صنوف العذاب المختلفة، في ظل نقص الاحتياجات الإنسانية الأساسية، وتوقف الخدمات كافة ومثلهما كثر.
الخذلان أشد من الحرب
لا تختلف ظروف مصطفى عون (44 عاماً) عن غيره، فقد أقام خيمته مع عائلته بعدما نزح إلى محافظة خان يونس. وفي حديث مع «الأخبار» يقول: «القلب فيه غصَّة عظيمة جداً، لو خرجت، لملأت الأرض وجعاً وقهراً، فمنذ أكثر من عشرة أشهر ونحن نُذبح، على مرأى ومسمع ورضى من بني جلدتنا للأسف، من دون أن يحرِّكوا ساكناً».
أبو عون، أيضاً خط على خيمته المصنوعة من النايلون، فكتب «خيمة النزوح صعبة»، وأشار إلى أن أبشع ما في الحرب: «الخذلان الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني، وما دفعه إلى كتابة هذه المقولات كي تبقى شاهداً على النكبة الجديدة والجرائم الإسرائيلية، التي لم يستطع كل العالم أن يوقفها».
وجع يتفاقم
يقف بعض الأهالي في غزة، على ركام منازلهم ومبانيهم المنهارة، فيخطّون أحياناً بعض عذاباتهم على جدرانها، ويضعون علامات مميزة، تشير إلى وجود أشخاص تحت الأنقاض، يرثون عبرها أبناءهم في محاولة لتذكير العالم بأنّ جثامينهم عالقة منذ أشهر حتى الآن، بعدما دفنت الصواريخ الإسرائيلية أجسادهم في أعماقها، على أمل أن يستيقظ دعاة الإنسانية، لينقذوا ما تبقّى منهم، ويضعوا حداً لمعاناتهم.
ارتفال حمدية، نازحة من حي الشجاعية نحو مدينة خان يونس، تجلس حزينةً صامتةً بجوار خيمتها التي تشكّل ملاذها الوحيد، بعدما فقدت زوجها وأفراداً من أسرتها.
حمدية في الخمسين من العمر تروي قصتها: «جثة زوجي أسفل الركام منذ أشهر مع عدد من المواطنين، بعدما قصف الاحتلال مربعاً سكنياً بأكمله. لم يتمكن أحد من إخراجهم حتى اللحظة، بسبب عدم وجود رافعات ثقيلة وجرافات، وأشعر بالعجز الكبير والحسرة لعدم تمكّني من إنقاذ حياتهم».
ويواجه الدفاع المدني الفلسطيني، منذ بدء العدوان تحديات كبيرة في انتشال جثامين مئات الشهداء من تحت الأنقاض، بسبب نقص المعدات والآليات الثقيلة، ونقص الوقود، فضلاً عن إعاقة عمل عناصره واستشهاد عشرات الكوادر الذين استهدفهم الاحتلال عمداً أثناء قيامهم بمهام الإنقاذ.
وتوضح حمدية المكلومة مثل آلاف غيرها: «كنت أذهب وأجلس بجانب زوجي، وأبعث بصوتي عبر مكبرات الصوت، وأتحدث إليهم من تحت الأنقاض، لكنّنا فقدنا الأمل بالوصول إليهم».
وهي كغيرها، تأمل أن تتوقف حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، كما تأمل مثل آلاف العائلات أن يُتاح لها انتشال جثمان زوجها ودفنه بشكل كريم.