لبنان على طاولة "فاتف" في أيلول... منصوري يقود مساعي الساعات الاخيرة
أظهر احدث تقرير سنوي صادر عن هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان ان عدد حالات تبييض الاموال المشتبه بها في لبنان قد وصل الى 527 حالة خلال العام 2023، 80% منها مصادرها من جهات محلية و20% تقريبا من جهات أجنبيّة.
وفي هذا السياق، قامت الهيئة بالتحقيق مع 495 حالة، فيما أبقت 32 حالة أخرى قيد الدراسة، وبحسب التقرير الذي ورد في النشرة الاسبوعية لبنك الاعتماد اللبناني، فقد أمرت السلطات القضائية في لبنان برفع السرية المصرفية عن 96 حالة، 81 منها ذات مصدر محلي و15 حالة ذات مصدر أجنبي. بالفعل، تستمر المساعي الهادفة الى إقناع المؤسسات الرقابية الدولية بأن لبنان الذي تم شطبه من لائحة الدول غير المتعاونة في محاربة تبيض الاموال منذ العام 2002، بأن هذ البلد يحقق تقدّماً مستمرّاً في مكافحة تبييض الاموال وتمويل العمليات المشبوهة. وفي سياق غير بعيد، يغادر حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري الى العاصمة واشنطن مطلع الشهر المقبل حاملا في جعبته المزيد من الامال بإبعاد لبنان عن القائمة الرمادية التي تضعها مجموعة "فاتف" قبل أيام قليلة من الاجتماع "المصيري" الذي تفصل فيه المنظمة الدول بين من هو ملتزم بالإجراءات ومن لم يحقق تقدما مطلوبا في هذا الخصوص.
فلبنان الذي الذي حصل على فترات سماح في الماضي لتأجيل عملية إدراجه على اللائحة الرمادية، لم ينجح في أيار 2023 من الاستفادة مما يعرف بـ" غضّ نظر" عندما درست «مينا فاتف» ملفه، وتغير توجه المنظمة يومها عندما تدخل مندوبو الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي لطلب تحويل ملف لبنان إلى منظمة "فاتف" للدراسة والتقييم، على ان يخرج القرار النهائي في شهر أيلول المقبل عند اجتماع المنظمة.
ولا بد من الاشارة الى ان "فاتف" هي منظمة دولية يُطلق عليها اسم "مجموعة العمل المالي"، مقرّها العاصمة الفرنسية باريس وتأسّست في العام 1989، وتعمل على وضع المعايير الدولية لمكافحة غسيل الأموال وملاحقة عمليات تمويل الإرهاب وانتشار السلاح خارج الاطر القانونية، وفي سبيل ذلك تقوم بتقييم سنوي للدول لدرس مدى التزامها بهذه المعايير.
أما مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENAFAT فقد كانت تتمتع بمقعد "مراقب" في مجموعة العمل المالي FATF حتى حزيران 2007 عندما تمّ منح مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا صفة "عضو منتسب" لدى مجموعة العمل المالي.
يعول حاكم المركزي بالانابة وسيم منصوري، مرة جديدة، على شراء بعض الوقت للبنان لحين ان تقوم الحكومة اللبنانية والمجلس النيابي باتخاذ الاجراءات المطلوبة لتحسين صورة لبنان لناحية الاليات والتشريعات المعتمدة لمكافحة "العمليات المشبوهة الفساد وملاحقة الفاسدين".
ووفق التقرير الاخير لمنظمة "فاتف" والذي دفع المنظمة لطلب إعادة تقييم تصنيف لبنان، تعتبر المنظمة ان الملاحقات القضائية في لبنان لا تتماشى مع التهديدات والمخاطر وتحديدا كل ما يتعلق بالملاحقات الجمركية ومكافحة التهريب والتهرب الضريبي والاتجار بالمخدرات وبالبشر، والاهم على هذا الصعيد ما يتعلق بغياب اي أليات واضحة في لبنان لناحية تحديد مصادر الجريمة المالية وعائداتها وكيفية تجميدها ومصادرتها وفقاً لقاعدة "فاتف"، وايضا وفق تقرير "فاتف" فالسلطات القضائية في لبنان لم تنجح حتى الساعة في إيجاد الاليات المناسبة لمصادرة عائدات هذه الجرائم.
ويضاف الى ذلك ما تصفه "فاتف" بالفساد في الادارة العليا في لبنان مع غياب أي أليات واضحة لاسترداد الأصول التي تم الحجز عليها أو نقلها إلى ولايات قضائية أخرى. كما تعتبر "فاتف" ان لبنان لم يسجل تقدّماً على صعيد التحقيقات بشأن التهديدات المحتملة التي تشكلها أنشطة إحدى الجماعات شبه العسكرية المحلية الكبرى المنظمة المعروفة بالـ paramilitary groups .
يحمل منصوري الى عواصم القرار مطلع أيلول المقبل ملفاته ساعيا لحثها على إعطاء لبنان المزيد من الوقت قبل إدراجه ضمن اللائحة الرمادية، حيث سيشرح مرة جديدة أهمية الإجراءات التي قام بها مصرف لبنان والمصارف، بما ينسجم مع القواعد الدولية لناحية المسارات المالية والتحويلات وتبييض الأموال وضرورة التأكيد على ان وضع لبنان على اللائحة الرمادية قد يساهم في تعزيز التهرب الضريبي وزيادة تبييض الأموال، وضرب جهود مصرف لبنان في هذا المجال. وللتذكير، فالتقرير الأخير الذي صدر عن "فاتف" أتى ليؤكد ان ما قام به المركزي في لبنان من إجراءات استثنائية تتطابق مع كل ما تتطلبه المنظمة لناحية مكافحة تبيض الأموال وتمويل الإرهاب.
ولكن، مرة جديدة ستسأل منظمة فاتف ومجموعة العمل الدولي منصوري عن انجازات الدولة على صعيد الإصلاحات عموما، وتحديدا في موضوع مكافحة الفساد، والقرارات القضائية التي لها علاقة بملفات تبييض الأموال. أما في موضوع المجموعات شبه العسكرية (paramilitary groups) فتشير المعلومات الى تحقيق تقدم محدود على هذا الصعيد، ويتجه منصوري لحل هذا الموضوع في المرحلة المقبلة.
عندما نتحدث عن وضع "فاتف" دولة معنية ضمن اللائحة الرمادية، فهذه الخطوة بشكل عام تضع النشاط المالي والمصرفي لهذه الدولة تحت وصاية دولية أمنية ومالية، تكون مخولة إخضاع جميع عمليات تحويل الأموال من لبنان إلى الخارج للتدقيق في مصدرها، وأهداف تحويلها، بما فيها عمليات التحويل التي تجريها الدولة والمصرف المركزي، بالإضافة إلى خطر وقف تعامل المصارف المراسلة مع المصارف اللبنانية، وقطع الطريق على دخول أي استثمارات وأموال جديدة إلى السوق اللبنانية. أما ما حصل في الأشهر الأخيرة، وقد يكون حاكم مصرف لبنان بالإنابة قد نجح في تحقيقه، فهو إقناع المصارف المراسلة التي تتعامل مع لبنان، التي عاد وارتفع عددها من مصرف واحد الى 6 مصارف، بالإجراءات التي اتخذها المركزي لناحية مكافحة مكافحة تبيض الأموال وتمويل الإرهاب، ما يعني ان العمليات المصرفية والتحويلات من والى لبنان لن تتأثر في حال أصرت منظمة فاتف على إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، مثلما حصل مع العديد من الدول حول العالم، مثل الامارات وإمارة موناكو وغيرهما، وعادت "فاتف" ورفعت هذه الدول عن اللائحة الرمادية بعد امتثالها للإجراءات الإصلاحية المطلوبة.
وكان زار منصوري لهذه الغاية وزارتي الخارجية والخزانة الأميركية، وصندوق النقد والبنك الدولي، في محاولة منه لإقناع أصحاب القرار لديهم بأن الإجراءات والخطوات التي يقوم بها مصرف لبنان والمصارف تتماهى مع مطالب "فاتف" في التزام القوانين الدولية ومعايير الشفافية. وبحسب مصادر منصوري، فقد أبلغ المعنيين بأن وضع لبنان على اللائحة الرمادية هو ضرب لجهود مصرف لبنان، وتعزيز لفرص تفشي تبييض الأموال، وعزل مالي واقتصادي لبلد يحاول بما بقي لديه من سيولة. ويبدو ان منصوري نجح في إقناع البعض بلقاءاته الاميركية، وفشل مع البعض الآخر، بيد أنه لم يتمكن كليا من ضمان "الدخان الأبيض" ونيل الموافقة على تأجيل الإحالة إلى اللون الرمادي مرة أخرى، ولكن الأهم هو ما تؤكده مصادر منصوري عن اقتناع المصارف المراسلة بضرورة الاستمرار بالعمل مع لبنان حتى في حال إدراجه ضمن اللائجة الرمادية، مع اقتناع منظمة "فاتف" والمصارف المراسلة بان الحلقة الأضعف ليست في المصرف المركزي والمصارف وإنما لدى الحكومة والسلطات القضائية، وبالتالي التزاماً من مجموعة العمل الدولي بعدم قطع العلاقات المالية والمصرفية مع لبنان، وتحييد الأنشطة المصرفية العادية عن أي إجراءات عقابية محتملة.
من هنا، قد يكون وضع لبنان على اللائحة الرمادية ما هو إلا خطوة جديدة للضغط على السلطات اللبنانية للتنبه للمخاطر التي تواجهها والتي قد تتدحرج نحو الأخطر في حال لم تتحرك سريعا.