"ورقة إرساء الاستقرار" الحكوميّة: كيف تقرأها القوى السياسية المتخاصمة؟
اليوم، وبعد عشرة أشهر، على بداية المواجهات العسكريّة بين حزب الله وقوات الاحتلال الإسرائيليّ، خرجت الحكومة اللّبنانيّة، ولأوّل مرةٍ بورقة رسميّة مؤداها تظهير موقفها في كل ما يجري، بعد أشهر على صمتٍ مشوب بالعجز في صياغة قرار بالتورط أو الحياد أو على الأقلّ خطة جليّة لإنقاذ البلد المنكوب من تداعيات الحرب الّتي طرقت أبوابه وتوسعت إلى حدوده وداخلها. وتم تعميم هذه الورقة على سواد البعثات الدبلوماسيّة اللّبنانيّة في الخارج، وطلبت الحكومة من هذه البعثات إجراء الاتصالات اللازمة في دول الاعتماد على المستوى الثنائيّ وضمن مجالس السّفراء العرب لتظهير الموقف اللّبنانيّ. مؤكدةً أن هذه الورقة هي اقتراحٌ لنهجٍ منتظم، يهدف لتحقيق خفص من شأنه أن يوفر بديلًا عما سمته بـ "الفوضى الحاليّة". وجاءت الورقة على ثلاث مستويات: المنظور القريب، والأمد المتوسط، وسُبل المضيّ قدمًا (البعيد). في وقتٍ يرى المراقبون أن الحكومة اعتمدت مبدأ "ما لا يُدرك كله لا يُترك جُله"، في صياغتها لمثل هذه الورقة بعد عجزها المديد.
وبالنظر إلى هذه الورقة، حاورت "المدن" مجموعة متنوعة (من حيث الكُتل والانتماءات) من أعضاء المجلس النيابيّ، والقوى السّياسيّة اللّبنانيّة، لمعرفة كيف تمت قراءة هذه الورقة، وعن مواقفهم ورؤاهم والاقتراحات الّتي بالإمكان إضافتها في هذا السّياق، عشية المفاوضات لوقف إطلاق النار في غزّة القادرة وحدها على تصدير رؤية واضحة لمستقبل الاشتباكات في الجنوب اللّبنانيّ. مع تساؤلات حول فاعلية مثل هذه الورقة، في وقتٍ تبرز فيه هواجس من كون الجانب الإسرائيليّ لن يرتضي وحتّى في سيناريو وقف إطلاق النار، العودة إلى الستاتيكو الذي كان مكرّسًا قبل السّابع من تشرين الأوّل.
وطرحت "المدن"، الأسئلة نفسها من دون أي تعديل. فكيف تشكلت مواقف القوى السّياسيّة؟
النائب فراس حمدان:
بدايةً، رأى حمدان، أن هذه الورقة الصادرة عن رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، ووزير الخارجيّة عبدالله بو حبيب، فيها اختزال واضح وصريح للصلاحيات المنوطة بهما، معتقدًا أن طرح مثل هذه الورقة وبكل ما تحمله من معطيات سياسيّة ودبلوماسيّة، لا يتمّ إلّا بعد نقاشٍ وطنيّ عامّ في الحكومة والبرلمان، لمناقشة الاستراتيجيات المعتمدة لخفض التصعيد. وأكدّ حمدان، أنّ هذه الورقة حتّى اللحظة ليس لها أي صيغة مُلزمة ولا تتماشى مع الأسس الدستوريّة. معتبرًا أن الموضوع أشبه بالمقايضة وفي شيء من المساومة على المصلحة الوطنيّة. لافتًا إلى أن الأجدى كان طرح مثل هذه الورقة على البرلمان ومناقشتها (وهذا لا يتعارض مع كون المجلس في حالة انعقادٍ دائم لانتخاب رئيس). وشدّد حمدان، أنّه لا يتأمل خيرًا في مثل هذه الورقة أو في الحلول الجزئيّة، معتقدًا أن الأجدى اليوم مطالبة المجتمع الدوليّ والعربيّ بقيادة حراكات دبلوماسيّة حثيثة وجديّة لوقف الحرب على غزّة والجنوب. وتعزيز مقومات الصمود، والالتزام الفعليّ والجاد بالقرار 1701. وإعطاء الصلاحيّة الحقيقية لقوات اليونيفل بالقيام بأدوارها المنصوص عليها في القرار، لمؤازرة القوى الشرعيّة المتمثلة بالجيش اللّبنانيّ.
النائب إبراهيم منيمنة:
أما منيمنة فاعتبر أن الورقة، هي لائحة من المطالبات ولا جديد فيها، ولا تطرح مقاربة حقيقية لخفض التصعيد، فالكلّ موافق على هذه المطالب، أكان المجتمع الدوليّ ولبنان، لكن اليوم القرار في يدّ الحزب الذي ربط مصير الجنوب بمصير غزّة، ولا حديث فعليّاً باتفاق سوى بعد اتفاق وقف إطلاق النار. معتبرًا أن مفاعيل القرار 1701 بحاجة لأطر واضحة لتطبيقها، وهذا ما يشمل أيضًا موضوع قوات اليونيفيل.
النائب بلال عبدالله عن كتلة اللقاء الديمقراطيّ (الحزب التقدميّ الاشتراكيّ):
من جهته، قال النائب بلال عبدالله، إنّ الورقة الرسميّة هذه، تحاكي المصلحة الوطنيّة العليا، بالأخذ بالاعتبار التعقيدات الداخليّة، والمأزق السّياسيّ القائم، فضلًا عن الأزمة الاقتصاديّة وتداعيات الحرب على لبنان، ناهيك بالمشهد الفلسطينيّ. لذلك فإن النقاط الأساسيّة المطروحة تبدي استعداد لبنان للقيام بواجباته، لحماية سيادته أوّلًا وللحفاظ على الاستقرار ثانيًّا، على مبدأ إعطاء الضمانات للأطراف الأخرى. وكل النقاشات المطروحة هي التنفيذ المتوازن للفريقين للقرار 1701، هذا القرار الذي عليه توافق داخليّ وطنيّ، وبالنهاية هذا سلاح لبناني، لكن الطرف الإسرائيليّ أعطى أبعاد أخرى لهذا القرار، وكأنّه قرار يجب أن يلتزم به طرف واحد. ويجب إعطاء ضمانات خارجيّة لمنع أي اعتداء على السّيادة اللّبنانيّة. أما عن تقييمه للاستراتيجيات، فقال أنّها جيّدة بالمبدأ العام، لكن التساؤل يبقى: "ماذا يريد العدو الإسرائيلي من إطالة أمدّ الحرب، وماذا يريد من توسيع رقعة الحرب؟ إلى أي مدى سيبقى الغرب لا يمارس أي دور ضاغط لوقف الحرب على غزّة ولبنان؟" أما الفاعليّة الحقيقية للورقة بكل استراتيجياتها فتأتي بعد وقف إطلاق النار على غزّة.
وأكدّ عبدالله، أنّه لا يجب تحميل قوات اليونيفيل أكثر من طاقتها، وهي تقوم بدورها الأساسيّ منذ العام 2006 بهذا الدور، ولكن لكي تستطيع اليونيفيل والجيش اللّبنانيّ بالتطبيق الفعليّ للقرار 1701 فيجب تأمين ضمانات، أوّلها وقف العدوان على غزّة، ضمانات غربيّة وتحديدًا أميركيّة– إسرائيليّة بعدم الاعتداء على السيادة اللّبنانيّة، وطرح حلّ حقيقيّ للقضية الفلسطينيّة.
رئيس جهاز العلاقات الخارجيّة في حزب القوات اللّبنانيّة الوزير السّابق د. ريشار قيومجيان:
بالنسبة لحزب القوات اللّبنانيّة، يوضح قيومجيان، أن الورقة نظريًّا ممتازة، لكن في الإطار العمليّ هي غير قابلة للتحققع حتّى اللحظة، خصوصًا أن الحرب الدائرة في جنوب لبنان، يخوضها طرفٌ يعتمد استراتيجيّة خارجيّة أبعد من لبنان نفسه، وهي قرار "وحدة الساحات"، والحكومة اللّبنانيّة تماهت مع هذا القرار إما عجزًا أو تواطؤًا، فيما يدفع الشعب اللّبنانيّ ثمن هذه الخيار. وأشار قيومجيان بالقول: "مطالب هذه الورقة، تتشابه ومطالبنا الّتي دعينا إليها من أوّل لحظة، وهي عدم الانخراط وتحييد لبنان وتطبيق القرارات الدوليّة ونشر الجيش اللّبنانيّ على الحدود". واستطرد بالقول: "الكلّ يطالب بهذا المطلب، من الحكومة لهوكشتاين للأفرقاء السّياسيين في لبنان، لكن هل سيتمّ فعليًّا وضع مدماك مؤسس وإطار دائم يجري العمل بمفاده؟ ونتساءل أيضًا ماذا جنت اليوم هذه الحرب على لبنان؟ وهل فعليًّا ساهمت في مشاغلة إسرائيل عن غزّة؟"
أما عن نظرته للمستقبل المقترح في حال تحقق سيناريو الاتفاق على المفاوضات، فيؤكد قيومجيان، قائلًا: "اليوم وعشية آخر فرصة للمفاوضات، نرى أنّه وفي حال نجاحها فإن فرص تطبيق مثل هذه الورقة معقولة، لكن يبقى السؤال: هل فعليًّا سينكفئ حزب الله ويتراجع عن تصعيده فيما لو الظروف أتاحت تطبيق القرار 1701؟ وهل سترتضي إسرائيل بالعودة إلى الستاتيكو ما قبل السابع من تشرين الأوّل؟". وعن دور اليونيفيل وصلاحيتها، يُضيف قيومجيان: "لنكن واقعيين، إن إعطاء اليونيفيل المزيد من الصلاحيات والسّماح لها بالقيام بدورها الفعليّ في مؤازرة الجيش اللّبنانيّ، هو المخرج لإرساء الاستقرار جنوبًا".
أما عن الفترة المقبلة، فيقول قيومجيان: "الفترة المقبلة حساسة ولا تحتمل المناورة. الضروريّ اليوم هو طرح حلول حقيقية لا جزئيّة، لتجنيب لبنان حرباً عبثيّة تدور في دوامةٍ من الاستراتيجيات المقفلة".
النائب ياسين ياسين:
وقال ياسين: "لبنان بإمكانياته الدفاعية المحدودة مرغم على تقديم هكذا ورقة يعتمد فيها على المجتمع الدولي وقوات اليونيفيل. ورغم ان هذه الورقة قدمت بعد 10 اشهر من الحرب في الجنوب، إلا انها مرهونة بالتزام الغير في تحقيقها حيث الامكانات الداخلية محدودة أو معدومة من حيث القدرة على ردع أي اعتداء صهيوني في المستقبل على أرضه. أما الاستقرار في المنطقة فلا يتوقف على الاستجابة للاستراتيجيات المقترحة، بقدر تعلقه بأهداف الاطراف المتصارعة ومصالحها الداخلية والخارجية، ناهيك عن السلوك العدواني الهمجي لهتلر العصر نتنياهو".
وأضاف: "إن نهاية الحرب والصراع الأميركي الإيرانيّ هي التّي تحدد شكل الدعم وجهود إعادة الإعمار، الظروف في 2024 تختلف كلياً عن الظروف في 2006. في الظروف الحالية لبنان بحاجة إلى كل أنواع الدعم حتى قبل اندلاع الحرب. وقد تغاضى المجتمع الدولي عن الدعم بسبب التشرذم السياسي الداخلي، وهو غير مستعد لأي نوع من الدعم إلا إذا كان الوضع الداخلي اللبناني يتناغم مع أهدافه. أما الحكومة الحالية فمكتوفة الأيدي بظلّ تصريف الأعمال. والمطلوب أن تدرك الأطراف اللبنانية جميعاً لخطورة الوضع، وتذهب لانتخاب رئيس جمهورية كبداية لانتظام العمل السياسي، وإنتاج حكومة أصيلة قادرة على اتخاذ قرارات فعالة".
وأكدّ أنّه "يجب أن يتكامل هذا التفويض لليونيفيل مع تنسيق كامل مع الجيش اللّبنانيّ، بعد تمكينه بالأعداد والمعدات اللازمة. وأي دور أو مهام تؤدي إلى الاستقرار مرحب به شرط عدم المس بالسيادة الوطنية".
مصادر مقربة من "الحزب":
وأشارت مصادر مقربة من حزب الله، أن موقف الحزب من الورقة الرسميّة، إيجابيّ، لكنه متمسك بموقفه في ردّ الضربة الّتي وجهها الجانب الإسرائيليّ، والمتمثلة في اغتيال القيادي فؤاد شكر.
المصادر لم تنفِ أن تطبيق مفاعيل القرار 1701 منوطة بالتزام الجانب الإسرائيليّ بها. وبظلّ عدم الثقة به، فإن تطبيقه على أرض الواقع سيكون صعبًا للغاية. ولم تجب المصادر على أسئلة "المدن" بما يرتبط بتفويض قوات اليونيفيل وإفساح المجال لها بالاضطلاع بصلاحياتها، وخصوصًا في ظلّ التقويض المستمر لها من قبل الحزب، وفق ما يشير بعض الأفرقاء المعارضين له.
ويُذكر أن "المدن" تواصلت تكرارًا مع جميع الكتل النيابيّة والقوى السّياسيّة، وضمنًّا التيار الوطنيّ الحرّ الذي تأخر عن التصريح، وحزب الله الطرف الأبرز والذي كان من المهم مناقشته، إلّا أن نوابه اعتذروا قائلين أنّهم "ممنوعين عن التصريح". وقد تواصلت مع فعاليات حزبيّة في الحزب وكرّروا موقف نواب كتلة الوفاء للمقاومة. أما نواب حركة أمل الذين تواصلت معهم "المدن"ـ فاعتذروا أيضًا عن الإدلاء بأي تصريح. فيما قال النائب أشرف ريفي أنّه معتكف حاليًّا عن الإدلاء بموقفٍ عام أمام الصحافة.
إذًا، وبناءً على ما ذُكر آنفًا عن لسان ممثلي عدد من الكتل النيابيّة، يبدو أن النيّة لعقد جلسات حوار ومفاوضات وجلسات تباحث حصريّة، تُلزم مختلف الأطراف على إيجاد مخرج للوضع الحالي، وبالتّالي ممارسة الدور الأساسيّ الذي يفرضه الدستور، شبه غائبة. وهذا مرده طبعًا لحالة التشتت السّياسيّ على كل المستويات، وارتباط مصير لبنان ككل بالحسابات الخارجيّة وحسب، لا بالإرادة اللّبنانيّة، كما بات معروفًا.