30 عاماً... من الطيران الشراعي إلى المسيّرات ومن سوريا إلى «كاريش» فـ «طوفان الأقصى»
يوضح القائد في القوة الجوية أنه «في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، جرى أوّل نقاش بين القادة العسكريين في حزب الله حول سلاح الجو. كل الجهد الذي كان يُبذل لتطوير عمل مجموعات المقاومة داخل الشريط الحدودي لم يمنع تكليف مجموعة للبحث في سبلٍ لمواجهة «ملك السماء»، الذي هزم العرب جميعاً، نتيجة التفوّق الجوي، سيّما أن الاستعلاء في عقل العدو، كان مرتبطاً أيضاً بحاجته إلى كل سماء المنطقة، لأن سماء فلسطين تبقى في نهاية الأمر ضيّقة أمام سلاح الجو الإسرائيلي. وهو أعد برامج عمل لم تتوقف عن التطوير لمنع قيام أيّ منافسة له على صعيد سلاح الجو في كلّ الشرق الأوسط.
في مطلع التسعينيات بدأ التفكير العملاني في إنشاء «القوة الجوية» في المقاومة. كانت هذه القوة في بدايتها عبارة عن مجموعة من المقاومين، وكان الشهيد حسان اللقيس أبرز من عملوا في مرحلة النشأة، وكان معه فريق تدرّبوا بداية على الطائرات الشراعية، بهدف القيام بعمليات استشهادية خلف خطوط العدو أو ضد مواقعه.
في حزيران 1994، استُشهد جميل سكاف أثناء التدريبات. بعدها جرى العمل على طائرة ثانية، واتفقنا على القيام بعملية جديدة، واختير المقاوم حسين أيوب الذي استُشهد أثناء تنفيذ العملية عام 1996. كما استُشهد آخرون لاحقاً، وحتى اليوم، لا تزال القوة الجوية تقدّم الشهداء».
ويضيف القائد الجهادي أنه «منذ اليوم الأوّل، كان حزب الله يعرف أنه يحفر جبلاً بإبرة. لذلك كان الإصرار هو عنوان العمل لدى كلّ من انخرط في هذه الورشة. وعندما انتقلنا من الطيران الشراعي إلى المسيّرات، كان ذلك بسبب التطوّر العلمي، وبقيت روحية المجاهدين واستعدادهم كما كان. وكان الهدف واضحاً: لا يمكن ترك العدو يتسيّد السماء!
بعد عام 2000، تغيّر كلّ شيء. في إيران، انطلقت ورشة كبرى في ملف المسيّرات، وكان علينا الاستفادة من ذلك. وقد نجحنا في خلق مفاجآت في حرب 2006، رغم أنّ هناك عملاً لم يكن قد أُنهي بعد. لكن حصلت عدة عمليات إطلاق لمسيّرات، وكان مهماً لنا، ومقلقاً للعدو، أن ننجح في اختراق الحدود. وهذا أمر حصل.
كانت هناك مجموعات تعمل تحت القصف الكثيف على تجهيز مسيّرات انقضاضية، وليس مسيرات للاستطلاع فقط مثل «مرصاد» التي بدأ العمل بها عام 2004. وأثناء الحرب، أطلقنا طائرة إلى حيفا. وأنجزت القوة الجوية في حينه مجموعة من المهام الاستطلاعية والانقضاضية».
وتابع: «بعد عام 2006، انتقلنا إلى مرحلة جديدة. كان السؤال حول كيفية مواجهة التحديات الجديدة، بعدما باشر العدو العمل على إنتاج «القبة الحديدية» التي تعمل على أربع طبقات من الدفاع. وعندما أُتيح لنا التعرّف إلى قدرات العدو التكنولوجية، قمنا بالمقارنة من ناحية القدرات المادية، وكان يمكن أن نتوقف نتيجة الفوارق الهائلة. لكنّ القرار بالتطوير كان متخذاً، ولا مجال للتراجع أو التوقّف».
وفي الحديث عن مراحل العمل يقول القائد الجهادي: «بين عامَي 2006 و2008، تولّى الشهيد القائد حسان اللقيس مهمّة استثنائية لرفع مستوى «القوة الجوية». وللشهيد حسان دور كبير في اختصاصات عدة، وكان بمنزلة أيقونة هنا وعند الإخوة في إيران، وله بصمته في اختصاصات القوات كافة (بحرية، دفاع جوي، جو فضائية، صاروخي، مسيرات...).
وفي إيران، يشهدون للشهيد حسان ويحفظون له دوره الكبير في تطوير المسيّرات. وهو كان يردّد دائماً أنّ هذا السلاح نوعيّ ومؤثر، وسنعتمد عليه في الحروب القادمة. ولذلك، سلّم له الجميع، وكان حضوره في إيران كحضوره في لبنان في مجال تطوير المسيّرات.
والشهيد حسان كان غارقاً في عالم التكنولوجيا الخاص بهذا النوع من السلاح. وكان متابعاً وملمّاً بكل ما تقوم أميركا به في هذا المجال. وعندما استُشهد نهاية عام 2013، كان قد أنجز، تقريباً، كل المطلوب وأكثر، ودرّب كثيرين أكملوا عمله، وحتى اليوم نعمل بأسلحة أشرف هو على صناعتها. حصل تطوّر كبير في هذا العالم. وإذا كان العدو يعتقد بأن كل ما لدى إيران في هذا المجال موجود لدينا، فليظن ما يشاء. لكنّ الحقيقة أن هذا ليس أسوأ سيناريو يجب أن يفترضه».
وتطرّق القائد الجهادي إلى تجربة القوّة الجوية أثناء الحرب في سوريا، وكشف «أن ملف المسيرات كان في إطار سريّ جداً ومغلق تماماً إلى أن شاركت «القوة الجوية» في معارك سوريا. بدأ ذلك في معركة القصير الشهيرة. وصار الأمر معلوماً لأن طبيعة العمل في السماء لا يمكن أن تخفى، فكيف إذا كان ذلك وسط تحدٍّ أمني واستخباراتي هائل مع العدو.
عرف العدو أننا صرنا موجودين في المطارات، ولدينا برامجنا للطلعات الجوية، وبتنا نفعّل التردّدات الخاصة بنا للتحكّم بالمسيّرات التي نطلقها. كان العدو أكثر من يتابعنا، وكوننا ندرك ذلك، تصرّفنا على قاعدة أنه يرى في مشاركة القوة الجوية في الحرب السورية فرصة له ليتعرف أكثر إلى عملنا. لكننا وفقاً للمبدأ الدائم بتحويل الفرصة إلى تهديد للعدو، تصرّفنا بما يجعلنا نتحكم بالقدر الذي نريد له التعرّف إلى قدراتنا.
كان العدو يرصد كل ما تقوم به «القوة الجوية». وكان مهتماً بمعرفة تكتيكاتنا. وفي مرات كثيرة، وبمجرد ما كنا نرسل سرباً للاستطلاع، كان العدو يستنفر قواته الجوية والاستخباراتية لجمع المعلومات، عن مكان إطلاق الطائرات، وأمكنة وجود الطاقم البشري، والتردّدات وأدوات التحكم. ولكن، بسبب طبيعته الاستعلائية، تصرّف العدو وكأنه بات يعرف كل شيء عنا. وعلى أي حال، ستُظهر الأيام أنّ ما عرفه هو ما كنا نسمح له بمعرفته. علماً أن تجربة سوريا تمثل بالنسبة إلى القوة الجوية في حزب الله كنزاً كبيراً جداً. فقد تعلّمنا في 8 سنوات ما يحتاج إلى 16 سنة. وهو يحصل اليوم، فما تعلّمناه في الأشهر التسعة الماضية كنا نحتاج إلى أكثر من 3 سنوات لتعلّمه».
ويضيف: «نفّذنا في سوريا آلاف الطلعات، ووفرت لنا عمليات الاستطلاع مئات آلاف الصور الجوية. صحيح أنّ قتالنا كان مع التكفيريين، لكنّ عيننا بقيت على إسرائيل، لأنّ المواجهة معها لا يمكن مقارنتها بأي معركة أخرى. وحصل أثناء الحرب السوريّة احتكاك مع العدو. فقد كنا بعيدين «فشخة» عن الجولان. جرت أمور كثيرة في تلك المرحلة. إذ افترض العدو مرات عدة أنه أسقط مسيّرات لنا أو سيطر عليها، لكن، كل ذلك كان جزءاً من خطة أعددناها لتحصيل أمور معينة. وأتيح لنا التعرّف إلى قوّة الكشف وعمل منظومات الرادارات لديه، وكذلك مديات أسلحة الدفاع الجوي.
في إحدى المرات، أجرينا اختباراً لتحديد مديات منظومة الباتريوت التي أُطلقت ضد مسيّراتنا. سقطت الصواريخ في الأردن، بينما عادت مسيّراتنا إلى قواعدها سالمة. يومها حصل هرج ومرج لدى العدو حول سبب وصول الصواريخ إلى الأردن فيما كان يتحدث عن تصدّي قواته لمسيّرات فوق سوريا. كان العمل في سوريا فرصة لنا للتعرّف إلى قدرات العدو في كشف أنواع معينة من مسيّرات المقاومة، وتحديد نقاط الضعف في منظومته للرادارات».
ويلفت القائد الجهادي إلى «أن القوة الجوية شاركت أيضاً في الحرب ضد «داعش» في العراق. وكانت فرصة إضافية لتجارب جديدة، وقارنّاها مع التجارب القائمة في إيران أو اليمن. لكن، عندما تكون المواجهة مع إسرائيل، فالحديث يتحول إلى شيء آخر، لأن ما لدى إسرائيل غير موجود في الساحات الأخرى، وخصوصاً أنّ وسائل الجمع الاستخباري لدى العدو هائلة وتغطي مساحات واسعة جداً. وهو مضطّر إلى طريقة عمل خاصة معنا.
إذا أخذنا، مثلاً، موضوع الرادارات ومساحات التغطية. فالعادة أن تفصل مئات الكيلومترات بين الرادارات. في دول كبيرة يكون هناك 10 إلى 15 راداراً فقط. لكنّ العدو ينصب راداراً واحداً كل 30 كلم على الحدود معنا. وهو يوزّع على طبقات عدة من الدفاع الجوي أضعاف ما تقوم به أي دولة أخرى».
ولفت القائد الجهادي إلى أن هذا النوع من الانتشار الاستخباراتي للعدو «فرض علينا آلية عمل مختلفة. والأهم، وفّر أمرين: الأول: ملاءمة السلاح المسيّر ليكون قادراً على تجاوز منظومات العدو. في مرات كثيرة، كان العدو يسقط مسيّرات ويتفاخر بما يقوم به، علماً أنها كانت اختبارات واستطلاعاً بالحركة لآليات عمله. وفي كثير من الأحيان كانت طائراتنا تدخل وتعود. وكنا ندخل تعديلات على المسيّرات بما يلائم التهديد الإسرائيلي المتجدّد دوماً. وعندما نقول كنا، نقصد كل قوى المحور وليس حزب الله فقط، علماً أننا صرنا منتجين لهذا النوع من السلاح وبكثرة كبيرة جداً».
ويضيف: «في تموز 2022، قمنا بالمهمة المعروفة باسم «مهمة كاريش»، أي تهديد حقل الغاز الإسرائيلي في البحر. بعد كلام سماحة الأمين العام، قام العدو بتحضيرات كبيرة جداً في الميدان البحري. ومع أننا فقدنا عنصر المفاجأة، أطلقنا 3 مسيرات، تنوّعت مهامها، بين إلهائية ومعلوماتية.
تباهى العدو بأنه نجح في إسقاط المسيّرات. لكنّ الرسالة وصلت إلى أهل الاختصاص عنده. عرفوا أنّ لدينا مسيّرات قادرة على الاختراق رغم كل الإطباق الموجود جواً وبحراً. إذا سمع الناس صوت مسيّرة، لا يعني ذلك أنهم عرفوا كم يوجد من المسيّرات، ولا في أي عمق تعمل. علماً أنه كانت في الأجواء 4 أو 5 أسراب من الطائرات الحربية والمروحية. مع ذلك وصلت المسيرة إلى فوق حقل كاريش. أي إن الرسالة وصلت. العدو أسقط مسيّرتين، والثالثة سقطت في طريق العودة. والعدو يعرف معنى ما حصل، إن لناحية مساحة العمل أو طبيعة المنطقة المفتوحة والخالية من التضاريس. وهذا ما أجبره على التنازل في المفاوضات».
وعن مرحلة ما بعد «طوفان الأقصى»، يتطرّق القائد الجهادي إلى مرحلة «واجهنا فيها أصعب سيناريو كان يمكن أن تتوقعه القوة الجوية في حزب الله، لأن كلّ الخطط لم تكن تقوم على أساس أنّ عملنا سيكون محصوراً بالحافة. مع ذلك، بدأنا مهام الاستطلاع، ثم التنفيذ.
وهنا تكمن الصعوبة الكبيرة، لأننا مقيدون بضوابط كثيرة. لو كنا في حالة حرب شاملة، حيث لا تكون هناك قيود أو ضوابط، فإن قدرتنا على العمل تصبح مختلفة جداً. والعدو يعرف أنه في الحرب الشاملة لن يكون قادراً على التفرّغ فقط لسلاح المسيّرات، بل سيكون أمام تحدٍّ آخر، حيث ستسقط يومياً آلاف الصواريخ على كلّ مراكزه العسكرية والحيوية، من أنواع عدة ومديات مختلفة. والمعركة لن تكون ساحتها جبهة الحدود.
عملياً، نحن نعرف، والعدو يعرف، أن منظومات الدفاع الجوي عنده، بما فيها سلاح الطيران، تعمل على هدف واحد اسمه المسيّرات. وهذا ما يجعلنا نقول إنه السيناريو الأصعب. وعلى العدو أن يعلم، وهو يعلم، أنه في حالة الحرب الشاملة، سيكون أمام زخم من نوع آخر، من المسيّرات والأسلحة الأخرى... وهنا نتحدث عن شيء مختلف تماماً عمّا يراه اليوم. العدو يعرف ما الذي يحصل اليوم، كون القوة الجوية مقيّدة كثيراً الآن. لذلك هناك سؤال دائم لدى قادة العدو السياسيين والعسكريين: ما الذي يمنع حزب الله من ضرب أي هدف إستراتيجي وحسّاس؟».
ويلفت القائد في القوة الجوية إلى «أننا اليوم في حقل تجارب مهم جداً. وتعلّمنا الكثير في أشهر قليلة. في بداية الحرب، كانت نسبة النجاح قليلة. لكن، مع الوقت، انقلبت الآية. وبعدما خبرنا عدوّنا، وتعلّمنا من الميدان، وأدخلنا تكتيكات جديدة، انقلبت الموازين والفعالية وارتفعت نسبة النجاح. ونحن نقول إننا في القوّة الجوية حدودنا السماء. ونعمل ليل نهار، ونعرف أنّ العدو ليس غافياً. وقد وصلنا إلى مرحلة بتنا قادرين فيها على تحديد الثغرات عنده، والتنبّؤ بخطواته. وبينما كان العدو مطمئناً إلى أننا غير قادرين على مجاراته، بات مصدوماً الآن، لأنه لا يعرف الإجابة عن سؤال مثل كيف أنّ كلّ طائرات العالم تتأثر بالتشويش، بينما تذهب مسيّراتنا وتعود. وعندما نقول إننا نعمل على معالجة الأمور، فهذا يعني أنّ كل الخبراء في محور المقاومة يعملون على هذا الأمر، بمَن في ذلك إخواننا في الحرس الثوري في إيران».
وعن آليات العمل، يلفت القائد الجهادي إلى أنه «قبل الحرب، كنا نحتاج إلى إذن خاص، حتى نعرف كيف نحرّك مسيّراتنا الاستطلاعية. الآن، فتحت الحرب المجال لكلّ أنواع الاختبارات. ولو أننا مقيّدون بمساحة العمل ونوعيّته. لكننا لا نتوقف عن العمل. ولدينا قاعدة تستند إلى قول الإمام علي إنّ «أخ الحرب الأرق». ما يعني أنّ الفريق يبقى في حالة قلق وتفكير في كل الأمور، بما لدينا وبما يمكن للعدو أن يقوم به. ونحن نجهّز ونطور ونسعى إلى شيء جديد. وما يساعدنا في القوة الجوية أن سلاح المسيّرات ديناميكي جداً، ومرن للتطوير، وكل التقنيات الجديدة بات في إمكاننا إضافتها إلى كلّ ما لم نستخدمه من مسيّرات».
ويشير القائد الجهادي إلى العلوم المتقدّمة في عالم المسيّرات ويقول «هناك ما يتعلق ببرامج الذكاء الاصطناعي. والكل يعلم أنّ الإمام القائد السيد علي الخامنئي، قال قبل سنوات أنّ عام 2021 هو عام الذكاء الاصطناعي، وطلب من الجميع الاهتمام بهذا العالم. ونحن نعتبر طلب السيد القائد بمنزلة الأمر. وليس في مقدور العدو الإسرائيلي أو الأميركي الادعاء بأنه يحتكر هذا العلم. وقد دخلنا هذا العالم حتى قبل توصية السيد القائد. ولذلك نقول بثقة إنّ العدو لم يرَ إلا القليل من بأسنا، وسيرى المزيد».