مياه صرف المستشفيات... لا تكرير ولا من يكرّرون!
كيف تتخلّص المستشفيات من مياه الصرف الصحي فيها؟الجواب ليس صعباً. ففي لبنان، كل ما «يُنتج» من صرف صحي، في المستشفيات أو المصانع أو المنازل، وجهته البحر. هذا واقع قائم في بلاد يغرق بحرها وكثير من أنهارها في مياه الصرف الصحي... التي سنشربها في ما بعد و«نأكلها» بعد أن يسقي بها المزارعون مزروعاتهم.
غالباً ما تأخذ النفايات الصلبة حيزاً أكبر من الاهتمام على حساب الصرف الصحي، وخصوصاً ما «تنتجه» 135 منشأة صحية، حكومية وخاصة، يومياً من آلاف الليترات من مياه الصرف الصحي «غير العادية»، إذ تحمل معها مخلّفات العمليات الجراحية وغرف العلاج الكيميائي وغسيل الكلى وغيرها من «الغرف» التي تفرز مياهاً سائلة تتضمن كميات ضخمة من الجراثيم القاتلة.
أين تذهب تلك المياه بسمّيتها، وما هي المقترحات اللازمة لمعالجتها؟ هو ما دفع كلية الهندسة في جامعة البلمند إلى إجراء دراسة حول أزمة الصرف الصحي في مؤسسات الرعاية الصحية وكيفية إدارتها. فريق عمل الدراسة قادته البلمند، بالتعاون مع أربع جامعات لبنانية (الجامعة اللبنانية الأميركية، سيدة اللويزة، الروح القدس الكسليك والجامعة اللبنانية) وبالشراكة مع 6 جامعات أوروبية (إسبانيا وفرنسا وسويسرا). الهدف من هذه الشراكة إجراء مسح للصرف الصحي في المؤسسات الصحية في لبنان ومقارنته بكيفية تعاطي الدول الأوروبية مع هذه المعضلة. الدراسة اعتمدت عينة موسّعة من 120 من أصل 135 مستشفى، أي 90%، توزّعت بين حكومية وخاصة وعلى كل الأراضي اللبنانية، وقُسّمت بحسب الأحجام: مستشفيات صغيرة (دون 100 سرير) وأخرى متوسطة (بين 100 و300) وثالثة كبرى (فوق 300 سرير). كما استهدفت الدراسة مياه الصرف الصحي لوحدات محددة وهي وحدة تلقّي العلاج الكيميائي لمرضى السرطان ووحدة غسيل الكلى ووحدة معالجة المصابين بفيروس كورونا التي كانت في ذروة زخمها لدى تنفيذ الدراسة (2020 - 2022). وجاءت هذه الاختيارات متعمّدة لسببين أساسيين: أولهما أن هذه الوحدات موجودة في معظم المستشفيات. فحوالى 38% من المستشفيات التي شملتها الدراسة مجهّزة بوحدات للعلاج الكيميائي و49% بغرف غسيل الكلى و60% بأقسام للمصابين بفيروس كورونا. والثاني أن هذه الوحدات هي الأكثر «إنتاجاً» للمياه السائلة الملوّثة، والتي تُحتسب بالليترات لكل سرير يومياً. وبالأرقام، ينتج السرير في وحدة العلاج الكيميائي 60 ليتراً من المياه يومياً، مقابل 90 ليتراً للسرير في غرفة غسيل الكلى و40 ليتراً في غرفة الكوفيد ــــ 19.
البحر والأراضي الزراعية
لم يكن مفاجئاً الخروج بنتيجة مفادها أن «80% من مياه الصرف الصحي التي تخرج من المستشفيات تصبّ مباشرة في نظام الصرف الصحي البلدي من دون فصل أو معالجة مسبقة». وإذا كانت 25% من هذه المؤسسات تفصل نفاياتها من المصدر و14.2% تجري معالجة مسبقة وتنزع الملوّثات الأساسية منها، إلا أن ذلك لا يعني أنها تخرج صالحة للاستعمال أو حتى نظيفة، إذ تحتوي تلك المياه، رغم المعالجة، على ثلاثة أنواع من البكتيريا تتحلّل شيئاً فشيئاً في المياه الجوفية أو تختلط كما هي في مياه البحر، ما يجعل المؤسسات الصحية في قائمة الملوّثين الذين يتسببون اليوم بمراكمة أعداد مرضى السرطان وغيره من الأمراض المستعصية. وكل هذه الملوّثات تسير في طريقها إلى البحر، إذ لم تجد 18 مؤسسة صحية كبرى حرجاً من الإجابة على سؤال حول مصير تلك المياه بالقول صراحة «نرسلها إلى البحر مباشرة»، فيما تعتمد مؤسسات أخرى طرقاً مغايرة، لكنها تقود حتماً إلى مصب نهر أو إلى الأراضي الزراعية ومنها إلى المياه الجوفية. وفي التبريرات التي تسوقها المؤسسات المشمولة بالدراسة، ترمي هذه الأخيرة المسؤولية على الدولة باعتبارها المسؤول عن هذا الملف. وإذا كان هذا التبرير «في جانب منه صحيحاً، انطلاقاً من الدراسة التي أجريناها على الواقع في أوروبا والذي يشير إلى أن مياه الصرف الصحي لهذه المؤسسات تصبّ في شبكات الصرف التي تصب تالياً في محطات التكرير لتخرج منها مياهاً صالحة لإعادة الاستعمال»، بحسب منسّق مشروع المعالجة المستدامة لمياه الصرف الصحي في المستشفيات (SWATH) الدكتور مكرم بشواتي، إلا أنه في ظل الانهيار الذي تعاني منه الدولة، تتحمل المؤسسات أيضاً مسؤولية المعالجة المسبقة لهذه النفايات العالية السمّية، وتخصيص جزء من موازنتها لهذا الأمر، وتدريب فرق متخصّصة على القيام بهذه المهمة. غير أنه ما بين الاستبيان والواقع «تتفاوت الإجابات»، يقول بشواتي. فرغم أن «جميع المجيبين يحدّدون بوضوح مسؤولية إدارة مياه الصرف الصحي للرعاية الصحية بموظفيهم»، إلا أنّه بحسب أرقام الدراسة، تبيّن أن 25% من هذه المؤسسات فقط تخصّص ميزانية لهذا الغرض، فيما يساهم أقل من نصف المستشفيات (41%) في مراقبة مياه الصرف الصحي، وتعيّن 25% منها مسؤولاً عن اختبار مياه الصرف الصحي الخاصة بها. ولا تملك غالبية المستشفيات (81%) سياسة مكتوبة لإدارة مياه الصرف الصحي للرعاية الصحية، «ولا تزال هذه الفجوة ثابتة عبر المحافظات، بغضّ النظر عن الحجم (عدد الأسرة) أو نوع المجلس الإداري (حكومي أو خاص)».
وفي تفصيل لبعض النسب، من اللافت الإشارة إلى أن غالبية المستشفيات الكبيرة والمتوسطة، ولا سيما تلك في القطاع الخاص، هي المنتج الرئيسي لمياه الصرف الصحي الملوّثة بالأدوية السامة للخلايا (السموم الخلوية) وكذلك المياه الملوّثة بمخلّفات فيروس كورونا، فيما المستشفيات المتوسطة والصغرى، الحكومية بشكل خاص، هي المنتج الرئيسي لمياه الصرف الصحي الملوّثة بمواد غسيل الكلى. كما تبيّن أن مياه الصرف الصحي الملوّثة بغسيل الكلى ومواد كورونا أعلى في محافظات جبل لبنان فالشمال ثم الجنوب، في حين أن مستشفيات البقاع هي الأكبر في إنتاج مياه الصرف الصحي للسموم الخلوية.
كيف تمكن المعالجة؟
لا تقع المعالجة على عاتق كل مؤسسة دون سواها أو على عاتق المؤسسات الصحية وحدها، إذ إن ملفاً كهذا يستوجب الشراكة بين المؤسسات والدولة، بحسب البشواتي، انطلاقاً من أن الحل ليس فردياً وإنما جماعي، و«إن لم تكن الخطوة جماعية فهذا يعني أننا لن نمنع الكارثة». أما الحلول هنا فتكمن في الدرجة الأولى في إقامة محطات تكرير مركزية. والنقطة الإيجابية، بحسب البشواتي، هي «أننا لا نحتاج إلى محطة تكرير لكل مؤسسة وإنما يمكن الاكتفاء بمحطة تكرير مركزية في كل نطاق أو محافظة، لأن مساحة لبنان ليست كبيرة».
أما بالنسبة إلى الحلول الأخرى فتشمل «التأكد من تخصيص ميزانية محددة لإدارة مياه الصرف الصحي للرعاية الصحية بما يتناسب مع حجم كل مستشفى، وتنفيذ الاختبارات المنتظمة لمياه الصرف الصحي على مستوى كل مستشفى على أن يقودها الطرف المسؤول في كل مؤسسة مع البلدية المعنية، ووضع معايير واضحة لمياه الصرف الصحي المقبولة قبل التفريغ». وكذلك «إجراء عمليات تدقيق داخلية وخارجية منتظمة لمياه الصرف الصحي من قبل الوزارات المعنية للتأكد من أنها تلبي إرشادات السلامة قبل التخلص منها في نظام الصرف الصحي البلدي، وإنشاء برامج تدريبية موحّدة لجميع المستشفيات اللبنانية تغطي أنواعاً مختلفة من النفايات، وتدريب الموظفين وغيرها من الإجراءات».