التسليف بالدولار "الفريش": منصوري ينتظر غطاء البرلمان
أثار حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري زوبعة من السجالات الحادّة، على مرّ الأيّام الماضية، عندما أثار مسألة عودة القطاع المصرفي إلى أنشطة التسليف. جرى ذلك في افتتاحيّة "المنتدى العقاري اللبناني"، حينما ركّز منصوري على أنّ "الوقت حان لكي يعيد القطاع المصرفي عمليّة التسليف"، للتمكّن من "إعادة العجلة الاقتصاديّة". طرح المسألة من قبل أعلى هرم السلطة النقديّة، لاقى ردودًا متناقضة: بين المؤكّد على أهميّة الخطوة مع الحذر من العوائق القانونيّة، في مقابل المتخوّف على مصير الودائع في حال عودة أنشطة التمويل التقليديّة قبل إعادة هيكلة القطاع. في الحالتين، كان من الواضح أنّ ثمّة أطر تنظيميّة يجب معالجتها، قبل الوصول إلى الهدف الذي أشار له منصوري.
العقبات التنظيميّة والقانونيّة
في جميع الحالات، لم تكن المصارف بحاجة إلى تصريح منصوري كي تلتفت إلى أهمّية العودة إلى نشاط التسليف. الدور البديهي للمصرف، في علم المال والقانون على حدٍ سواء، هو العمل كوسيط بين المدّخر والمقترض. ومن دون هذا الدور، لن يكون المصرف سوى قناة لإعادة توزيع النقد ما بين المصرف المركزي والسوق. وبعد تنظيم مسألة "الدولارات الجديدة"، وفقًا لتعاميم مصرف لبنان، بات هناك نحو 3 مليارات دولار على أقل تقدير، من السيولة الطازجة التي يمكن استعمالها في أعمال التسليف.
في واقع الأمر، قامت العديد من المصارف –وخصوصًا الكبرى منها- بوضع بعض المنتجات الماليّة التي تسمح بتسليف زبائنها بالدولار الفريش، ومن ثم تحصيل الديون بالعملة ذاتها. غير أنّ هذه البرامج ظلّت محصورة بفئات محدودة من العملاء: التجّار من ذوي العلاقات التاريخيّة بالمصرف، أو أصحاب الحسابات الموطّنة بالدولار النقدي، أو بعض الفئات التي يمكن "الاطمئنان" لعلاقتها بالمصرف. المعيار الأساسي، هو تقدير كل مصرف لاحتمال الوصول إلى مرحلة المطالبات القانونيّة، في حال عدم الدفع. والهدف، هو عدم الوصول إلى هذه المرحلة أساسًا.
بهذا المعنى، لا يمكن القول أنّ المصارف عادت إلى نشاط التسليف بالفعل. نشاط التسليف، يعني التعامل مع "الجمهور" بمعناه الأوسع. أو بلغة أبسط، وضع قواعد ملموسة تسمح لأي عميل بالحصول على القرض، من دون الاعتماد على معايير استنسابيّة. وما يحول دون عودة نشاط التسليف، بهذا المعنى، هو عقبات تنظيميّة وقانونيّة، إذ ما الذي يضمن للمصرف عدم لجوء المقترض لتسديد الدين لاحقًا بالدولارات المحليّة؟ أو ماذا لو قرّر المقترض الركون لمواد قانون النقد والتسليف، التي تعطي الليرة قوّة الإبراء، لتسديد الدين بالعملة المحليّة؟ وماذا لو عدنا إلى مرحلة تعدّد أسعار الصرف؟ في جميع هذه الحالات، سيعني الإقراض العودة إلى مراكمة الخسائر الإضافيّة.
لكل هذه الأسباب، مازال نشاط التسليف مقيّدًا. وحين يتحدّث منصوري عن ضرورة العودة إلى أنشطة التسليف، فهو يشير بوضوح إلى ضرورة تذليل هذه العقبات. فهو يعلم حتمًا أنّ المصارف أحرص منه على مباشرة عمليّة الإقراض، وخصوصًا المصارف الكبيرة التي أمّنت سيولة إضافيّة من بيع موجوداتها في الخارج.
الحلول المطروحة
في الوقت الراهن، يُشار إلى حلّين يمكن أن يسمحا بوضع إطار تنظيمي يعالج مسألة الإقراض. الأوّل، هو تمييز القروض الجديدة عن القروض القديمة، بنصوص تنظيميّة أو قانونيّة، بما يغطّي المصارف ويُجبر المقترض على سداد القروض الجديدة بالأموال الطازجة أو النقديّة أو التحويلات من الخارج، وبنفس عملة الإقراض. هذا الإجراء، وكما هو متوقّع، سيثير حفيظة المودعين، لكونه يزيد من التمييز بين الدولارات المحليّة والدولارات الطازجة، وبما يتكامل مع التعاميم التي أصدرها المصرف المركزي سابقًا بهذا الخصوص. وإذا كانت التعاميم السابقة قد ميّزت الودائع الجديدة، لحماية أصحابها، فهذا الأجراء سيصب في مصلحة المصرف أولًا، لحمايته من احتمال عدم سداد القروض بنفس عملة الإيداع.
الحل الآخر، هو تمييز جميع القروض عن الودائع بطريقة سدادها، وفرض تسديد أي قرض مصرفي بعملة الإقراض، وهو ما سيشمل القروض الجديدة والقديمة على حدٍ سواء. وثمّة من يعتبر أن الإجراء قد يصب في مصلحة المودعين أيضًا، لكون سيكفل تحصيل دولارات إضافيّة تقلّص حجم الخسائر المصرفيّة، من القروض القديمة. إلا أنّ هذا الإجراء قد يكون مجحفًا بحق أصحاب القروض القديمة، إذ كيف يطلب المصرف تسديد هذه الديون بنفس عملة الإقراض، بينما لجأ المصرف إلى تسديد الودائع بالعملة المحليّة أو بالتقسيط أو بالشيكات المصرفيّة؟
وفي الحالتين، ثمّة حساسيّة مرتبطة بتأمين المصارف السيولة لإقراض عملاء جدد، بالتوازي مع حبس الأموال والامتناع عن تسديد الودائع القديمة. غير أنّ هناك –داخل القطاع المصرفي- من يبرّر ذلك بالإشارة إلى أنّ "الدولارات الجديدة" جرى تمييزها أساسًا بحكم التعاميم الموجودة، وأن إقراضها لن يؤثّر إيجابًا أو سلبًا على حقوق المودعين القدامى، المرتبطين بآليّة توزيع خسائر "الدولارات المحليّة". وهذا الرأي، يصوّب أيضًا على انتفاع المودعين القدامى من القروض التي ستؤمّن إيرادات للمصارف، وهو ما سيزيد من مستوى الودائع المضمونة في المستقبل.
في هذا النقاش، تختلف الآراء وفقًا لهواجس من يتناول الموضوع: الحرص على الدورة الاقتصاديّة وحركة الأموال داخل النظام المالي تحتّم السؤال عن التسليفات، والحرص على حقوق المودعين يطرح الخشية من تطبيع التمييز بين الدولارات الجديدة والقديمة. وبغياب الخطّة الشاملة، التي تعيد توزيع الخسائر، وفق أولويّات ماليّة واقتصاديّة واضحة، تصبح المسألة أشبه بكباش بين هواجس وأولويّات متعارضة.
منصوري ينتظر البرلمان
الآليّة التنظيميّة التي تضمن سداد القروض بنفس عملة الإقراض، تحتاج إلى تشريع جديد خاص من البرلمان، بحكم أنّ قانون النقد والتسليف بشكله الحالي ينصّ بشكل واضح على قوّة الليرة الإبرائيّة، وهو ما يسمح بسداد القروض بالعملة المحليّة. بمعنى آخر، إجبار المقترض على السداد بالدولار الأميركي، بالنسبة للقروض الدولاريّة، يفرض وجود تشريع يعدّل مضمون قانون النقد والتسليف.
أمّا ضمان عدم تسديد القروض بشيكات مصرفيّة، فممكن أن يتم –بحسب بعض الاجتهادات- بقرار من مصرف لبنان، الذي يسيطر على المقاصّة ويرعى علاقة المصارف بعملائها بحسب القانون. مع الإشارة إلى أنّ هذه الاجتهادات تستند إلى سوابق جرت خلال الأعوام الماضية، ومنها صدور قرارات من المصرف المركزي للتمييز بين القروض التي تُسدد بالدولار النقدي أو الشيكات.
غير أنّ منصوري لحظَ سريعًا السجال الذي أثاره تصريحه الأخير، وخصوصًا من جانب المودعين الذي هالتهم الجرأة في طرح المسألة من جانب الحاكم بالإنابة. ولهذا السبب، عاد وسرّب أخبار مضادّة، تنفي اتجاهه لتنظيم عمليّة الإقراض، بمعزل عن سلّة التشريعات الإصلاحيّة الشاملة. بهذا الشكل، أبعد منصوري نفسه عن تنظيم هذه المسألة بقرارات المصرف المركزي، لينتظر قيام البرلمان بتمرير التنظيمات الجديدة في القوانين الصادرة عنه. ببساطة، لا يبدو أن منصوري مستعد لتحمّل وزر قرار غير شعبي وصعب، بوزن التمييز بين القروض الجديدة والقديمة، مع كل ما سيصاحب ذلك من اعتراضات من جانب المودعين.