"قلق" بري والشهر "المصيري".. هل من داع للهلع؟!
في وقتٍ لا يتوقف قرع طبول الحرب، وإن خفّ "زخمها" بعض الشيء، مع تراجع وتيرة العمليات العسكرية على الجبهة الجنوبية، ولو بصورة نسبيّة، لفتت الانتباه تصريحات رئيس مجلس النواب نبيه بري التي وُصِفت بـ"غير المسبوقة"، حين أعرب عن "قلقه" من تطور الأوضاع في الجنوب والتصعيد الإسرائيلي المستمرّ، معتبرًا أنّ "الوضع غير مطمئن"، ومتحدّثًا عن شهر "حاسِم ومصيريّ"، على حدّ وصفه.
وفي وقتٍ تفاوتت التفسيرات لهذه التصريحات، فضلاً عن الاستنتاجات التي انبثقت عنها، ثمّة من اعتبر أنّها "ضُخّمت" في مكانٍ ما، حين تمّ تصويرها وكأنّها "إيذان" بالحرب التي أصبحت "حتمية"، في حين أنّ رئيس المجلس أراد قرع "جرس الإنذار" في مكانٍ ما، ليس فقط على مستوى احتمال الانزلاق إلى حرب إسرائيلية شاملة ضدّ لبنان، ولكن أيضًا على المستوى السياسي، في ظلّ استمرار الفراغ الرئاسي الذي يكاد يصبح "قاتلاً".
في مقابل هذا الرأي، ثمّة من وضع التصريحات في خانة "التنبيه" من خطر الحرب، خصوصًا أنّ "قلق" بري لا يبدو منسجمًا مع سماته المألوفة، وهو الذي اعتاد أن يبثّ التفاؤل في النفوس، ومن ربط هذا الكلام بما سمعه بري من المبعوث الأميركي آموس هوكستين خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت، ما يدفع إلى التساؤل عن الخلفيّات الحقيقية لقلق بيروت المتعاظم، فهل يعني أنّ الحرب أصبحت قريبة فعلاً، وهل من داعٍ للهلع فعلاً؟!
قراءة "واقعية"
على الرغم من أنّ العارفين يتمسّكون بمقولة "لا داعي للهلع" التي انتشرت خصوصًا في مرحلة كورونا، ويعتبرون انّها ينبغي أن تسري على الواقع الحالي، فإنّهم يشيرون إلى أنّ التصريحات الأخيرة لرئيس المجلس يفترض أن تُقرَأ بوصفها "قراءة واقعية" للسياق العام الذي تشهده البلاد، وهو سياق لا يبدو "مطمئنًا" للكثير من الأسباب والاعتبارات، سواء على المستوى الأمني أو السياسي، أو حتى "النفسيّ" على وقع التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة.
في هذا السياق، يقول العارفون إنّ بري انطلق في تصريحاته، من "السلبية" التي قد يكون لمسها في الجولة الأخيرة للمبعوث الأميركي الذي عاد إلى تل أبيب بعد
بيروت، من دون أن يعود بأيّ رسائل، وهو ما فُسّر ضمنًا باصطدامه برفض تل أبيب لكلّ الطروحات، وإصرارها على المضيّ قدمًا في خططها "الحربيّة"، خصوصًا أنّ الزيارة كانت قد وُصِفت أصلاً بـ"الفرصة الأخيرة"، وجاءت في خضم تصاعد التهديدات، ووصولها إلى "الذروة".
ومع أنّ مرحلة ما بعد الزيارة عادت لتشهد بعد ذلك تراجعًا نسبيًا في وتيرة العمليات والتهديدات على حدّ سواء، ما أدّى إلى تراجع المخاوف من اندلاع الحرب على الأقلّ في الأمد المنظور، فإنّ العارفين يشدّدون على أنّ ما يعزّز "قلق" رئيس المجلس في هذا الإطار، يكمن في غياب الحصانة السياسية الداخلية لمواجهة أسوأ السيناريوهات وأصعبها، حتى إنّ أيّ مؤشّرات تغيب لـ"وحدة" اللبنانيين حتى في حال اندلعت الحرب، وهنا الخطر الأكبر.
المطلوب.. بدل "الهلع"
قوبلت تصريحات رئيس مجلس النواب بالكثير من التوتر والانفعال في الأوساط السياسية الداخلية، حيث ساد "الهلع" في مقاربتها من قبل معظم الأفرقاء، الذين اعتبر قسمٌ منهم أنّ "قلق رئيس مجلس النواب هو دليل على أنّ الأمور خرجت عن السيطرة"، فيما رأى آخرون أنّ العدّ العكسي للمواجهة الكبرى قد بدأ، وأنّ بري أراد تجهيز الأرضيّة للحرب، التي يبدو أنّ موعدها قد تحدّد خلال هذا الشهر الذي وصفه بري في تصريحاته بـ"المصيريّ".
لكن، بعيدًا عن المبالغات التي انطوت عليها التفسيرات، والتي دفعت المقربين من بري والمحسوبين عليه، إلى توضيح بعض المعطيات، ومنها أنّ الكلام جاء في سياق "دردشة عامة"، وأنّ بري لم يكن يتحدّث حصرًا عن الوضع في الجنوب، وإنما أيضًا عن ملفي الرئاسة والنزوح، وأنه أراد "تحفيز" الأفرقاء على التفاهم سريعًا، قبل أن يتفرّغ العالم للانتخابات الأميركية وللعطلة الصيفية، يشدّد العارفون على أنّ المقاربة المطلوبة أبعد ما تكون عن "الهلع".
ويوضح هؤلاء أنّ كلام بري كان يفترض أن يكون "محفّزًا" للأفرقاء، للشعور بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وبالتالي "تحصين" الساحة في مواجهة كل السيناريوهات والاحتمالات، وهو ما يسري على موضوع الحرب المحتملة، التي يجب أن يواجهها اللبنانيون بحدّ أدنى من "الوحدة الوطنية"، ولكنه يسري أيضًا على ملف الرئاسة، الذي ما عاد مسموحًا التمسّك بفيتوات شكليّة على خطّه، ولا سيما أنّ عدم انتخاب رئيس قد يُخرِج لبنان من طاولة المفاوضات.
باختصار، يمكن القول إنّ كلام بري لم يكن "تهويليًا"، في ذروة "التهويل" الآخذ في التصاعد على أكثر من "جبهة"، بل كان على الأرجح "واقعيًا"، يتوخّى وضع الأفرقاء أمام مسؤولياتهم التي قد تكون "تاريخيّة". لذلك قد تكون معادلة "لا داعي للهلع" دقيقة، ولكنّها الأكيد لا تكفي للنوم على حرير، فالمطلوب جدّية وحزم في مقاربة الأمور، بما يتيح تفاهم الحدّ الأدنى، بعيدًا عن "بازار" الشروط والشروط المضادة...