قراءة ديبلوماسية في زيارة لودريان: باريس لا تعزف وحيدة
تزامناً مع القراءات السلبية التي سبقت زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان لبيروت وما ورافقتها، احتفظت المصادر الديبلوماسية الأوروبية، والفرنسية تحديداً، بنسبة كبيرة من التروي ولم ترّ حاجة لإصدار السفارة الفرنسية بياناً، بعدما عبّر الرجل شخصياً عن رغبته بـ «زيارة صامتة»، لأنّ لديه مهمّة دقيقة تتعدّى ما يطمح اليه اللبنانيون، ولأنّ باريس لا تعزف وحيدة بعد سقوط رهاناتها السابقة. وعليه كيف السبيل إلى شرح هذه المعادلة؟.
لم يخف الديبلوماسيون الغربيون والفرنسيون خصوصاً حرصهم على إجراء قراءة متأنية لنتائج زيارة لودريان للبنان. وانّ ما حفلت به الساحة اللبنانية والإعلامية منها خصوصاً من قراءات متشائمة لكل ما سبق الزيارة ورافقها وتلاها، له ما يبرره في الظروف الراهنة التي يعيشها اللبنانيون. فهم يطمحون الى أن تؤدي الوساطات الدولية المتنوعة سواءً تلك التي تخوضها «الخماسية» أو التي بادر اليها الموفدون الدوليون والأمميون، الى حلحلة بعض الأزمات وتوفير المخارج لها، ولا سيما منها تلك التي تعني اكتمال عقد المؤسسات الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية لتنتظم العلاقة في ما بينها وتشكيل حكومة كاملة المواصفات الدستورية.
ويضيف أحد هؤلاء الديبلوماسيين - من باب معرفته الشخصية بكثير من الأسرار الغافلة على اللبنانيين الذين اقتيدوا الى ما تعيشه البلاد اليوم - أنّ اكثرية اللبنانيين كانوا يحلمون منذ فترة طويلة بأن يتجاوب أهل الحكم مع مضمون الرسائل الدولية والأممية التي حملت اكثر من رسالة واضحة الى مسؤوليهم بكل اللغات المعتمدة والتي دعتهم الى الإسراع في إتمام الاستحقاق الرئاسي لوقف الجدل القائم حول دستورية بعض السلطات، ولا سيما منها حكومة تصريف الاعمال الذي تفتقد إلى ثقة مجلس نيابي احتفل في 22 ايار الماضي بمرور نصف ولايته من دون ان يتمكن أهل الحكم من تشكيل حكومة جديدة وانتخاب الرئيس وملء الشغور في المواقع القيادية العسكرية والأمنية قبل الإدارية، وتحاشي اللجوء إلى التمديد في بعضها في ظروف ملتبسة، أو إيكالها بالإنابة إلى آخرين مع كل ما رافق ذلك من تشكيك بدستورية بعض الخطوات التي تكرّست بالممارسة بقوة الأمر الواقع.
وعلى وقع التبرير غير المنطقي لبعض مما اتُخذ من إجراءات، فقد لفت الديبلوماسي عينه الى أنّه لم يشهد في اي دولة تولّى فيها مهمّات مماثلة ما يعيشه لبنان من تجارب غير مسبوقة في ظلّ الانقسامات الحادة والعميقة بين اللبنانيين التي حالت دون التوصل الى اي تفاهم يقود الى تشكيل حكومة جديدة قبل عامين، او إنهاء فترة خلو سدّة الرئاسة من شاغلها بعد 18 شهراً على نهاية ولاية الرئيس السابق للجمهورية. عدا عن الفشل المتمادي في مواجهة اي من مجموعة الأزمات التي تناسلت إلى ان شملت مختلف مجالات حياة اللبنانيين المالية والنقدية والإدارية والصحية والتربوية والاجتماعية. وهم ماضون بإرادة «قلّة منهم» وانصياع «الأكثرية الصامتة» في حياتهم على ضفتي خطابين سياسيين يتحكّمان بكل ما يجري على الساحة اللبنانية، بعدما سقطت كل المحاولات التي سعت الى معالجة البعض من الملفات الخلافية قبل ان تتفاقم وتغذي الشعور الانهزامي لدى اكثرية اللبنانيين.
وإلى هذه الملاحظات التي تجمع عليها اكثرية المراقبين، انتقل أحد الديبلوماسيين الى معاينة النتائج التي يمكن ان تفضي إليها المبادرة الفرنسية التي جاء من أجلها لودريان الى بيروت حاملاً مجموعة من الاقتراحات لإنهاء الوضع الشاذ بكل المقاييس. وهو دعا المشكّكين بالمهمّة الى التروي في الحكم على نتائجها. وفي اعتقاده انّ الديبلوماسية بمفهومها العملي لا تعترف بـ «الجدران المقفلة» ولا بـ «الحواجز العالية» التي يعتقد البعض انّها شلّتها او أنهت مفاعيلها. ذلك انّ العمل الديبلوماسي تراكمي لا يقف عند مرحلة محدّدة مهما تعدّدت المحطات. وإنّ باريس لا تتصرف على أساس أنّها تدير اي ملف لوحدها. فتجاربها السابقة فرضت عليها ان تراعي كثيراً من العوائق التي يمكن ان تعوق اقتراحاً او تهدم سيناريو كاملاً وخصوصاً انّ هناك كثيراً من حقول الألغام التي يمكن عبورها بأقل الخسائر الممكنة ان لم تنجح في تفكيكها.
وتوسّع الديبلوماسي في قراءته للوضع في لبنان، فلفت الى انّ تشابكاً بين ما هو إقليمي ودولي مع ما هو داخلي أخطر مما يتصوره أحد. وإنّ بعض المخارج المحتملة التي كان يمكن اللجوء إليها قبل 7 تشرين الأول الماضي قد تجاوزتها التطورات، ولا مجال لمحاسبة من عطّلها وأعاق تنفيذها من اللبنانيين الذين برعوا في التهرّب من تحمّل مسؤولياتهم بشهادة الموفدين الدوليين من اصحاب الخبرة النادرة، لأسباب تتصل بالمناكفات الداخلية وعدم احتساب ما يمكن ان تقود اليه الأزمات الدولية التي أطلّت بقرنها من أكثر من بؤرة متفجّرة في العالم، قبل ان تنعكس على الشرق الاوسط عموماً ولبنان خصوصاً.
ولما طُلب منه المزيد من التفاصيل عمّا يمكن ان تؤدي اليه المبادرة الفرنسية وما زال خافياً على اللبنانيين، لفت إلى انّ فشل لودريان إن ثبت أنّه بات نهائياً، ليس مسؤولية فرنسية فحسب إنما هو فشل لكل المنظومة الدولية، ولا سيما منها الأطراف الذين «تبرّعوا» بالبحث عن مخارج للأزمة الداخلية ولم يتمكنوا من إقناع اللبنانيين بضرورة تحمّل مسؤولياتهم والتعبير عن قدرتهم على إدارة شؤونهم الداخلية بمعزل عن العون الدولي ومسلسل النصائح التي دعتهم الى التنازل المتبادل عن سلسلة الشروط التي أبعدتهم عن المخارج والحلول التي شكّلت فرصاً ذهبية قبل ان تضيع أو تندثر.
ولذلك، مضى الديبلوماسي ليقول، انّ لودريان لم يتصرف على خلفية الحرص الفرنسي على ضرورة تفاهم اللبنانيين واحترام ما يقول به الدستور بعيداً من اي عناصر اخرى كان يمكن تجاوزها فحسب، انما على خلفية التنسيق مع بقية القوى الدولية. فقبل ان يحدّد موعد زيارته السادسة لبيروت جال على واشنطن والرياض والدوحة والقاهرة وكان شريكاً في ما انتهت إليه الاتصالات واللقاءات التي أجراها الرئيس ايمانويل ماكرون في الشهرين الماضيين، ولا سيما منها تلك المرتبطة بالقمة الفرنسية – القطرية في نهاية شباط الماضي وعلى مستوى العمل الفرنسي من ضمن الجهود التي بذلها الاتحاد الأوروبي على اكثر من خط سياسي وتنموي. وهو عمل متشعب لا يقف عند الدعم للجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية ودعم المجتمعات المضيفة وفق برنامج تقوده «الوكالة الفرنسية للتنمية» العاملة في المناطق اللبنانية كافة. وهي ايضاً ساهمت وما زالت تشارك في آلية دعم لبنان في مواجهة أزمة النازحين السوريين. وأنّها على رغم من عدم اقتناعتها بعودة النازحين السوريين الى بلادهم شجعت الحفاظ على الحدّ الأقصى من الدعم الاوروبي.
وينتهي الديبلوماسي العتيق الى القول انّ القمة الاميركية ـ الفرنسية المنتظرة تشكّل محطة مهمّة ولكنها ليست نهائية بالنسبة الى لبنان، وانّ الرهان على خطوات بمعزل عن التعهدات الاميركية ليس أوانه، فقد قطعت اشواطاً بعيدة في تفاهمات لا ولن تكتمل فصولها قبل انتخاب الرئيس، وهو ما يراهن عليه الفرنسيون من دون ان يغيبوا عن الساحة اللبنانية.