في عيدهم... من يحميهم من الخطر؟
تحيّة إلى جميع العمّال في عيدهم، ولا سيما من يعملون اليوم. إلى الجنود المجهولين تحت الأرض، الذين لا تراهم الشمس، ولا يرون الضوء، تآلفوا مع الرطوبة، قد يغادرون الحياة ولم يروا منها غير مستودع للتخزين أو آلات للخياطة. وعمّال يعملون في الظلّ، غير مصرّح عنهم في وزارة العمل، مُنتهَكة حقوقهم. وآخرون يعرّضون حياتهم للخطر في سبيل العمل، يلمّعون الزجاج من أماكن مرتفعة، يقفون على سقالة البناء، يشتمّون روائح الدهان والترابة، يتعرّضون لمواد كيميائية خطرة...
لا يترافق الحق في العمل، في كثير من الأحيان، مع الحق في الحياة وفي الصحة السليمة. يُجبَر كثيرون على ممارسة أعمال خطرة على سلامتهم من دون ضمان صحي أو تأمين على الحياة، في سبيل سدّ رمق العيش. يكدح مروان، مثلاً، تسع ساعات يومياً لا تتخللها غير ساعة استراحة واحدة مقابل أجر زهيد. منذ 25 سنة، يقضي نهاره في تحميل الصناديق في مستودع خاص بتعاونية استهلاكية يقبع تحت الأرض، حيث «الرطوبة مزعجة جداً ويشكو منها جميع الموظفين»، كما يقول. وتصعد مريم لتستنشق هواءً نظيفاً بين الحين والآخر حيث تعمل في محل مبيعات تحت الأرض ينقطع عنه الأوكسيجين فـ«تخنقني رائحة الرطوبة».
ظروف قد تتسبّب بحوادث عمل، كما هي حال العاملين في معمل خياطة حصل على ترخيص، علماً أنه يقع في الطابق الثاني تحت الأرض، وهناك مولّد كهرباء على فوّهة المعمل إذا انفجر لا يجد أيّ من الموظفين سبيلاً للنجاة، ما يشكل مصدرَ رعب دائماً لهم. حتى في أماكن أفضل، أصيبت منار بالديسك بسبب طبيعة عملها التي تتطلب الجلوس خلف المكتب لثماني ساعات، ووقع عامل بناء أثناء صبّ السقف بالباطون وتعرّض للعطب ولإعاقة دائمة. جرت معالجته، لكنه صُرف من العمل من دون تعويض أو الاستمرار في صرف راتبه بعدما أعجزه الحادث عن مزاولة أيّ مهنة أخرى.
مختبر كيمياء
مخاطر مماثلة يواجهها العاملون في المختبرات. رغم ولعه بالكيمياء والعمل المخبري، لم يتحمّل محمود العمل في تحضير مواد كيميائية وتفكيكها لأنه «صعب وأصعب ما فيه أنه لا يشمل تأميناً ضد الحوادث التي يرتفع احتمال وقوعها». تعامل محمود مع مواد خطرة مثل مواد تحتوي على زئبق أو مواد عضوية سامة مثل البنزين. «نشمّ رائحتها وقد نحتك بها عن طريق اللمس بالخطأ. وكنا نشتري اللوازم الوقائية مثل القفازات والنظارات البلاستيكية والكمامات على نفقتنا لأنها غير مؤمّنة في المختبر». يذكر كيف «تسمّمتُ عندما تنشّقت غاز كبرتيد الهيدروجين ثم سدّدت بدلات العلاج من دخول مستشفى وفحوصات وأدوية على حسابي الشخصي لأنه لا توجد عقود عمل من الأصل تشمل الضمان الصحي أو التأمين». زميلته غادرت المختبر بعدما كادت تصاب بالعمى، وأخرى احترق شعرها ووجهها بالأسيد المركّز وتعالجت أيضاً على حسابها الخاص.
خطر ألغام
إذا كان الاقتراب من الألغام مضرب مثل لضرورة الانتباه وتوخّي الحذر، فهناك من هم على تماس مباشر وغير مباشر مع هذا الخطر، سواء لجهة فكّ الصاعق واحتمال انفجار اللغم عن طريق الخطأ، أو على صعيد تفكيكه في المختبرات لجهة خطر التعامل مع المواد الكيميائية التي يتكوّن منها وتخزينها. يروي أحدهم تجربته المؤلمة في تفكيك الألغام كيميائياً. «أصبت بسرطان في الأمعاء، أحد أسبابه، بحسب الطبيب، هو الأبخرة التي كانت تصدر وتتراكم في جسدي، ما أدّى إلى استئصال ثلاثة أرباع الأمعاء». لم يدرك هذا الشاب ضريبة عمله، ظنّ أن الضريبة الوحيدة هي اضطراره للعمل طوال 24 ساعة في غرفة مقفلة لا يدخلها الهواء ولا ضوء الشمس وعدم مغادرتها نظراً إلى دقة عمله. شفي من داء «الخبيث»، لكنه أقسم يميناً على عدم مزاولة هذا العمل الذي غادره إلى التعليم.
الاقتصاد غير النظامي
أصل المشكلة ليس في المهن الخطرة بحد ذاتها، لأن المجتمع يحتاج إلى عمال في مختلف المجالات المهنية، بل في «انتفاء شروط السلامة المهنية، وفي الاقتصاد غير النظامي الذي يتوسّع»، كما يقول رئيس «الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان» كاسترو عبدالله، مؤكداً أنه غير قادر على إحصاء عدد العاملين فيه. هذه «السوق الرمادية» متفلّتة من أي معايير لحماية حقوق العامل وحفظ صحته، التي نصّ عليها قانون العمل اللبناني، والكثير من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها لبنان.
يعيد عبدالله انفلاش الاقتصاد غير النظامي ومطاولته أكثر من قطاع إلى سببين «من جهة، جشع أصحاب المؤسسات الذي يكبر في ظلّ تراجع دور السلطة والنقابات العمالية، فيكتفون بالعقود الشفهية لصرف المسؤولية عن أنفسهم. ومن جهة ثانية، حاجة الموظفين في القطاعين العام والخاص إلى العمل التي تزداد في ظل الأزمة الاقتصادية، عدا استغلال حاجة النساء والأطفال وذوي الجنسيات غير اللبنانية إلى العمل بسبب ضيق الحال».
الجميع «في الهوا سوا»
لا يميّز الاضطهاد الذي يطاول العمّال اليوم، ويظهر من خلال الشكاوى التي تصل إلى النقابات العمالية، بين عاملين في السوق النظامية أو غير النظامية. التخلّف عن تسديد أجور، أو عدم التصريح عن موظفين في الضمان الاجتماعي، أو عدم تسديد بدلات النقل، ولا ساعات العمل الإضافية، وحتى الحرمان من الإجازات... كلّ ذلك يطاول الجميع بلا تمييز. يعيد رئيس «الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان» كاسترو عبدالله السبب إلى «ترهّل السلطة السياسية ومحدودية صلاحية وزارة العمل وإمكاناتها. فالمفتشون في الوزارة مثلاً ممنوعون من الدخول إلى بعض الأماكن، مثل شركات المرفأ من دون إذن مسبق من الأمن العام، كذلك هناك مناطق تابعة لجهة سياسية لا يمكن دخولها، عدا عجز المفتشين عن الوصول إلى أماكن المخالفات بسبب كلفة النقل المرتفعة وإضرابهم بسبب تدني الرواتب، وضعف مجلس العمل التحكيمي وواقع الاتحاد العمالي العام في لبنان المشرذم.
السلامة المهنية
كيف تتدارك المؤسسات وقوع الحوادث في العمل؟ كيف تؤمّن السلامة المهنية كأحد الشروط الملزمة للعمل التي أقرّتها منظمة العمل الدولية خلال مؤتمر نظّمته في حزيران الماضي؟
يجيب عبدالله، بناءً على تجربته في العمل في قطاع البناء قبل أن يكون نقابياً، «لبنان هو الأسوأ لجهة احترام سلامة العاملين، علماً أنّ هناك مرسوماً يراعي السلامة في قطاع البناء لم يُطبق، وقد وجد أحد الوزراء المعنيين بالمرسوم أن موت خمسة عمال أوفر من تطبيقه». وينطبق ذلك على القطاعات الأخرى، حيث لا توجد جداول بالأمراض المهنية التي تحدّد الأمراض الناجمة أثناء مزاولة المهنة وتتطلب معالجتها بالكامل على نفقة أصحاب العمل، مثل أعمال تؤثر في السمع أو النظر، كذلك عدم وجود ثقافة الطبيب والمستوصف في كلّ مؤسسة تشكل فيها الأعمال خطراً على حياة العاملين وصحتهم.
لا يترافق الحق في العمل، في كثير من الأحيان، مع الحق في الحياة وفي الصحة السليمة. يُجبَر كثيرون على ممارسة أعمال خطرة على سلامتهم من دون ضمان صحي أو تأمين على الحياة، في سبيل سدّ رمق العيش. يكدح مروان، مثلاً، تسع ساعات يومياً لا تتخللها غير ساعة استراحة واحدة مقابل أجر زهيد. منذ 25 سنة، يقضي نهاره في تحميل الصناديق في مستودع خاص بتعاونية استهلاكية يقبع تحت الأرض، حيث «الرطوبة مزعجة جداً ويشكو منها جميع الموظفين»، كما يقول. وتصعد مريم لتستنشق هواءً نظيفاً بين الحين والآخر حيث تعمل في محل مبيعات تحت الأرض ينقطع عنه الأوكسيجين فـ«تخنقني رائحة الرطوبة».
ظروف قد تتسبّب بحوادث عمل، كما هي حال العاملين في معمل خياطة حصل على ترخيص، علماً أنه يقع في الطابق الثاني تحت الأرض، وهناك مولّد كهرباء على فوّهة المعمل إذا انفجر لا يجد أيّ من الموظفين سبيلاً للنجاة، ما يشكل مصدرَ رعب دائماً لهم. حتى في أماكن أفضل، أصيبت منار بالديسك بسبب طبيعة عملها التي تتطلب الجلوس خلف المكتب لثماني ساعات، ووقع عامل بناء أثناء صبّ السقف بالباطون وتعرّض للعطب ولإعاقة دائمة. جرت معالجته، لكنه صُرف من العمل من دون تعويض أو الاستمرار في صرف راتبه بعدما أعجزه الحادث عن مزاولة أيّ مهنة أخرى.
مختبر كيمياء
مخاطر مماثلة يواجهها العاملون في المختبرات. رغم ولعه بالكيمياء والعمل المخبري، لم يتحمّل محمود العمل في تحضير مواد كيميائية وتفكيكها لأنه «صعب وأصعب ما فيه أنه لا يشمل تأميناً ضد الحوادث التي يرتفع احتمال وقوعها». تعامل محمود مع مواد خطرة مثل مواد تحتوي على زئبق أو مواد عضوية سامة مثل البنزين. «نشمّ رائحتها وقد نحتك بها عن طريق اللمس بالخطأ. وكنا نشتري اللوازم الوقائية مثل القفازات والنظارات البلاستيكية والكمامات على نفقتنا لأنها غير مؤمّنة في المختبر». يذكر كيف «تسمّمتُ عندما تنشّقت غاز كبرتيد الهيدروجين ثم سدّدت بدلات العلاج من دخول مستشفى وفحوصات وأدوية على حسابي الشخصي لأنه لا توجد عقود عمل من الأصل تشمل الضمان الصحي أو التأمين». زميلته غادرت المختبر بعدما كادت تصاب بالعمى، وأخرى احترق شعرها ووجهها بالأسيد المركّز وتعالجت أيضاً على حسابها الخاص.
خطر ألغام
إذا كان الاقتراب من الألغام مضرب مثل لضرورة الانتباه وتوخّي الحذر، فهناك من هم على تماس مباشر وغير مباشر مع هذا الخطر، سواء لجهة فكّ الصاعق واحتمال انفجار اللغم عن طريق الخطأ، أو على صعيد تفكيكه في المختبرات لجهة خطر التعامل مع المواد الكيميائية التي يتكوّن منها وتخزينها. يروي أحدهم تجربته المؤلمة في تفكيك الألغام كيميائياً. «أصبت بسرطان في الأمعاء، أحد أسبابه، بحسب الطبيب، هو الأبخرة التي كانت تصدر وتتراكم في جسدي، ما أدّى إلى استئصال ثلاثة أرباع الأمعاء». لم يدرك هذا الشاب ضريبة عمله، ظنّ أن الضريبة الوحيدة هي اضطراره للعمل طوال 24 ساعة في غرفة مقفلة لا يدخلها الهواء ولا ضوء الشمس وعدم مغادرتها نظراً إلى دقة عمله. شفي من داء «الخبيث»، لكنه أقسم يميناً على عدم مزاولة هذا العمل الذي غادره إلى التعليم.
الاقتصاد غير النظامي
أصل المشكلة ليس في المهن الخطرة بحد ذاتها، لأن المجتمع يحتاج إلى عمال في مختلف المجالات المهنية، بل في «انتفاء شروط السلامة المهنية، وفي الاقتصاد غير النظامي الذي يتوسّع»، كما يقول رئيس «الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان» كاسترو عبدالله، مؤكداً أنه غير قادر على إحصاء عدد العاملين فيه. هذه «السوق الرمادية» متفلّتة من أي معايير لحماية حقوق العامل وحفظ صحته، التي نصّ عليها قانون العمل اللبناني، والكثير من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها لبنان.
يعيد عبدالله انفلاش الاقتصاد غير النظامي ومطاولته أكثر من قطاع إلى سببين «من جهة، جشع أصحاب المؤسسات الذي يكبر في ظلّ تراجع دور السلطة والنقابات العمالية، فيكتفون بالعقود الشفهية لصرف المسؤولية عن أنفسهم. ومن جهة ثانية، حاجة الموظفين في القطاعين العام والخاص إلى العمل التي تزداد في ظل الأزمة الاقتصادية، عدا استغلال حاجة النساء والأطفال وذوي الجنسيات غير اللبنانية إلى العمل بسبب ضيق الحال».
الجميع «في الهوا سوا»
لا يميّز الاضطهاد الذي يطاول العمّال اليوم، ويظهر من خلال الشكاوى التي تصل إلى النقابات العمالية، بين عاملين في السوق النظامية أو غير النظامية. التخلّف عن تسديد أجور، أو عدم التصريح عن موظفين في الضمان الاجتماعي، أو عدم تسديد بدلات النقل، ولا ساعات العمل الإضافية، وحتى الحرمان من الإجازات... كلّ ذلك يطاول الجميع بلا تمييز. يعيد رئيس «الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان» كاسترو عبدالله السبب إلى «ترهّل السلطة السياسية ومحدودية صلاحية وزارة العمل وإمكاناتها. فالمفتشون في الوزارة مثلاً ممنوعون من الدخول إلى بعض الأماكن، مثل شركات المرفأ من دون إذن مسبق من الأمن العام، كذلك هناك مناطق تابعة لجهة سياسية لا يمكن دخولها، عدا عجز المفتشين عن الوصول إلى أماكن المخالفات بسبب كلفة النقل المرتفعة وإضرابهم بسبب تدني الرواتب، وضعف مجلس العمل التحكيمي وواقع الاتحاد العمالي العام في لبنان المشرذم.
السلامة المهنية
كيف تتدارك المؤسسات وقوع الحوادث في العمل؟ كيف تؤمّن السلامة المهنية كأحد الشروط الملزمة للعمل التي أقرّتها منظمة العمل الدولية خلال مؤتمر نظّمته في حزيران الماضي؟
يجيب عبدالله، بناءً على تجربته في العمل في قطاع البناء قبل أن يكون نقابياً، «لبنان هو الأسوأ لجهة احترام سلامة العاملين، علماً أنّ هناك مرسوماً يراعي السلامة في قطاع البناء لم يُطبق، وقد وجد أحد الوزراء المعنيين بالمرسوم أن موت خمسة عمال أوفر من تطبيقه». وينطبق ذلك على القطاعات الأخرى، حيث لا توجد جداول بالأمراض المهنية التي تحدّد الأمراض الناجمة أثناء مزاولة المهنة وتتطلب معالجتها بالكامل على نفقة أصحاب العمل، مثل أعمال تؤثر في السمع أو النظر، كذلك عدم وجود ثقافة الطبيب والمستوصف في كلّ مؤسسة تشكل فيها الأعمال خطراً على حياة العاملين وصحتهم.