زيارة البابا: رسائل تهدئة أم محطة قبل العاصفة؟
تحوّلت زيارة البابا إلى لبنان إلى حدث سياسي بامتياز، يتجاوز بعدها الديني والرمزي. فالبلد الغارق في أزماته الداخلية والقلق من اشتعال الجبهة الجنوبية وجد نفسه أمام محطة دولية كبرى تُعيده إلى الخارطة الدبلوماسية بعد سنوات من العزلة. ومع اقتراب موعد الزيارة، تصاعدت الأسئلة في الشارع حول ما إذا كانت إسرائيل تنتظر انتهاء الحدث لتبدأ مواجهة عسكرية واسعة، في ظلّ مناخ إقليمي متوتر وتحرّكات عسكرية متقطّعة على الحدود. لكن قراءة المشهد ببرودة أعصاب تُظهر أن العلاقة بين الزيارة واحتمال الحرب ليست بهذه البساطة.
أوّلًا، زيارة بابا الفاتيكان لأي دولة ليست تفصيلًا — بل هي استحقاق يحتاج إلى موافقات دولية، أمنية وسياسية، معقدة. الفاتيكان لا يُغامر بزيارة بلد يقف على حافة اشتعال وشيك، ولا يُرسل رأس الكنيسة الكاثوليكية إلى منطقة في حالة اضطراب إلّا إذا كانت هناك تطمينات دولية واضحة بأن الوضع يمكن ضبطه. هذا منطق ثابت في السياسة الفاتيكانية، ومن المعروف أن أي زيارة من هذا النوع تحمل دائمًا "ضمانات أمنية" صامتة من قِبَل القوى الكبرى. وعلى الرغم من أن البابا الحالي أميركي الجنسية، إلّا أن الفاتيكان ليس ملحقًا سياسيًا بالبيت الأبيض، ولا يرتبط رؤساؤه بأيّ خط سياسي حزبي، لا مع ترامب ولا مع غيره.
ثانيًا، الربط بين زيارة البابا وقرار حرب إسرائيلية شاملة ليس دقيقًا. إسرائيل، في حساباتها الأمنية، لا تُقارب الحرب بعقلية "انتظر انتهاء الحدث الدبلوماسي"، بل تنظر فقط إلى ميزان القوى وقدرتها على تحقيق أهداف عسكرية واضحة. فإذا أرادت الذهاب نحو مواجهة واسعة، لن تتوقف أمام مناسبة دينية أو زيارة غير سياسية، بل أمام مصالحها العليا وتقييمها المخاطر. وفي الواقع، تُظهر تجارب السنوات الماضية أن تل أبيب لا تدخل حربًا إلّا إذا ضمنت الحدّ الأدنى من الإجماع الداخلي، والتغطية الدولية، والجهوزية العسكرية — وهي عناصر ليست جميعها متوفرة اليوم.
مع ذلك، لا يعني هذا أن الوضع مطمئن بالكامل. الجنوب يعيش منذ أشهر على توتر منخفض الوتيرة، مع عمليات قصف محدودة وغارات متفرّقة وسجال ناري لا يخرج عن إطار "الاشتباك المضبوط". هذا النوع من المواجهات يبقى قابلًا للانفجار في أي لحظة بسبب خطأ تقدير، أو عملية عسكرية زائدة، أو حادث ميداني غير محسوب. وهنا تحديدًا يكمن القلق اللبناني: ليس لأن البابا سيزور البلد، بل لأن الجبهة الجنوبية بطبيعتها حسّاسة ولا تحتاج إلى الكثير لتشتعل.
إلّا أن قراءة المؤشرات الحالية تظهر أن سيناريو الحرب الشاملة ما زال الأقلّ احتمالًا. فإسرائيل ليست في وضع داخلي يسمح بفتح جبهة طويلة ومكلفة في لبنان، خصوصًا مع استمرار الضغوط الاقتصادية والاحتجاجات السياسية والانقسامات الحكومية. كما أن المجتمع الدولي، الذي عاد فجأة للظهور في بيروت عبر زيارة البابا، لا يبدو مستعدًا للتساهل مع انفجار إقليمي واسع قد يطول أوروبا وشرق المتوسط. الدول الكبرى تتحرّك اليوم بمنطق كبح التصعيد لا دفعه، سواء عبر الوساطات، أو الاتصالات الدبلوماسية، أو ما يسمّى "الضمانات الهادئة".
في المقابل، لبنان المستفيد معنويًا من الزيارة، يجد نفسه أمام لحظة نادرة لاستعادة مكانته الرمزية — الدولة التي كانت تُعرف بـ "بلد الرسالة" قبل أن تتحوّل إلى "بلد الأزمات". الزيارة، حتى لو بقيت رمزية، تمنح لبنان نافذة جديدة على المجتمع الدولي، وتعيد تأكيد ضرورة الحفاظ على استقراره الهش. قد لا تغيّر المعادلة العسكرية، لكنها تُعطي إشارة بأن العالم لم يطوِ الصفحة اللبنانية بعد.
في الخلاصة، زيارة البابا ليست مؤشر حرب ولا ضمانة سلام، بل محطة تُستخدم لقياس حرارة المناخ الإقليمي. إسرائيل لا تنتظر البابا لتشن حربًا، والفاتيكان لا يزور بلدًا على وشك الانفجار. ما بعد الزيارة سيبقى امتدادًا للمشهد نفسه: اشتباك مضبوط، ضغوط دبلوماسية، وحسابات إقليمية تُدار بالقطعة. وبين كلّ ذلك، يبقى اللبنانيون يعيشون بين الخوف والانتظار — يتطلعون إلى زيارة تُذكّر العالم بأن لبنان يستحق حياة طبيعية… لا ساحة صراع دائم