في الكواليس اللبنانية.. نقاشات صامتة بعيدًا من الأضواء

في زوايا المشهد اللبناني المزدحم بالأزمات والاصطفافات، تدور نقاشات هادئة ولكن بالغة الأهمية خلف الأبواب الموصدة، حول استراتيجية الأمن الوطني، في وقت تزداد فيه التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تحيط بالدولة اللبنانية من الداخل والخارج. ورغم أن هذا النقاش لا يتصدر عناوين الصحف أو أروقة الإعلام، إلا أنه يحمل في طياته أسئلة جوهرية تتعلق بموقع لبنان في الإقليم، وبمفهوم الدولة، وبالقرار السيادي، وبالمعادلات التي تحكم السلم والحرب.
ينطلق هذا النقاش من قاعدة دستورية وقانونية واضحة، إذ ينص الدستور اللبناني على أن وضع السياسة العامة، بما فيها السياسة الدفاعية، هو من اختصاص مجلس الوزراء مجتمِعًا، فيما يتولى المجلس الأعلى للدفاع تنفيذ هذه السياسة عبر اتخاذ الإجراءات الضرورية وتعبئة القدرات الوطنية عند الحاجة. بمعنى آخر، فإن الإطار المؤسساتي لاستراتيجية الأمن الوطني محدد، ولكنه يصطدم في الواقع بعوائق تتعلق بانقسام السلطة، وتعدد المرجعيات، وتضارب الأدوار، لا سيما حين يتعلق الأمر بالسلاح غير الشرعي والقرار العسكري غير الخاضع للحكومة المركزية.
وبحسب مصدر سياسي لبناني رفيع قال لـ "نداء الوطن"، إن "ما يعوق فعليًا إنتاج استراتيجية أمن وطني متكاملة هو غياب الإرادة السياسية الجامعة، لأن التوافق المطلوب على المبادئ الأساسية لم يتبلور بعد، رغم وجود الأرضية الدستورية والقانونية الواضحة التي تحدد الأدوار والصلاحيات". واعتبر المصدر أن "كل تأخير إضافي يضع لبنان في موقع المكشوف أمنيًا، ويجعل من الأزمات فرصًا دائمة للفوضى".
وفي العودة إلى ما تم إقراره رسميًا، فإن بيانات الحكومات المتعاقبة، ولا سيما البيان الوزاري للحكومة الحالية الذي استند إلى خطاب القسم الرئاسي وإلى وثيقة إعلان بعبدا المعتمدة دوليًا، رسمت ملامح أولية لاستراتيجية دفاعية وأمنية تقوم على ثلاثة مرتكزات: تحييد لبنان عن صراعات المحاور الإقليمية، تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة عبر الوسائل المشروعة، والتأكيد على أن قرار الحرب والسلم واحتكار السلاح يجب أن يكون حصرًا بيد الدولة اللبنانية. وهذه المرتكزات التي تمت صياغتها بموافقة مكونات السلطة، تحمل طابعًا سياديًا واضحًا، وتسعى إلى حماية لبنان من الانزلاق في حروب الآخرين، كما من تفكك مؤسسات الدولة تحت وطأة ازدواجية القرار.
إلا أن هذا الإطار النظري لا يكتمل من دون التوقف عند الغياب العملي لتطبيقه، إذ لم يتم حتى اليوم وضع استراتيجية أمن وطني متكاملة كما يفرض القانون، بالرغم من أن القانون نفسه يحدد بوضوح الجهة المخولة القيام بذلك، أي المجلس الأعلى للدفاع. فهذا المجلس، الذي يترأسه رئيس الجمهورية وتشاركه فيه قيادات أمنية ووزارية معنية، هو الجهة التنفيذية المفترض أن تترجم السياسة الدفاعية التي يقرها مجلس الوزراء إلى خطة أمن وطني شاملة، تغطي المستويات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية، وتحدد أولويات الحماية، ومصادر التهديد، وآليات الردع، ونمط التعاون الدولي. غير أن الانقسام السياسي والاصطفاف الحاد، حالا دون أن يتحول هذا المجلس إلى منصة وطنية جامعة للتخطيط الاستراتيجي، وظل دوره أقرب إلى التدبير الآني منه إلى التخطيط بعيد المدى.
ويؤكد المصدر السياسي نفسه أن "المجلس الأعلى للدفاع يمتلك كل العناصر المؤسسية التي تؤهله لأداء هذا الدور، لكنه بقي أسير الاستنسابية السياسية، لأن كل طرف يخشى من أن تتحول الاستراتيجية إلى أداة لمقاربته السياسية الخاصة بدل أن تكون وثيقة إجماع وطني حقيقية". وشدد على أن "الدولة اللبنانية تمتلك القدرة على وضع خطة أمنية شاملة لو توفرت الإرادة، وأُبعدت المزايدات".
واللافت أن كل المقاربات التي ظهرت في الإعلام أو في المداولات السياسية، لم تشر إلى أي دور لـ "حزب الله" في صياغة الاستراتيجية الدفاعية، انطلاقًا من أن هذا الدور محصور دستوريًا بالمؤسسات الرسمية، وليس بأي فصيل سياسي أو عسكري خارجها. ومع ذلك، فإن الواقع الميداني يفرض نفسه كعنصر ضاغط، ويجعل أي نقاش حول الأمن الوطني منقوصًا من القدرة على التطبيق ما لم يتم حسم مسألة احتكار الدولة للسلاح، ومرجعية القرار السيادي في زمن السلم والحرب، وهو ما يبقى أكبر تحدٍ أمام أية محاولة لوضع استراتيجية متماسكة وفعالة.
في هذا السياق، لا يمكن إغفال أن غياب النقاش العلني لا يعني غياب التفكير الاستراتيجي داخل مؤسسات الدولة، بل إن ما يجري اليوم هو محاولة خجولة لرسم خريطة طريق، تبدأ من إعادة تفعيل دور المجلس الأعلى للدفاع، وتكثيف الاجتماعات بعقلية التخطيط لا المعالجة الطارئة، وتنتهي بتقديم استراتيجية أمنية وطنية متكاملة إلى مجلس الوزراء لإقرارها، تكون قابلة للتطبيق، وتحظى بتوافق سياسي، وتراعي التحديات الداخلية والإقليمية من دون الخضوع لها.
ويختم المصدر السياسي البارز بالقول إن "لبنان لا يمكنه بعد اليوم أن يبقى بلا مظلة أمنية وطنية واحدة وموحدة. فاستراتيجية الأمن الوطني ليست ورقة تقنية بل مشروع بقاء لدولة على مفترق المصير".
إن لبنان الذي يقع في قلب الأزمات، ويعيش على خط الزلازل السياسية والأمنية، لا يستطيع أن يستمر في إدارة أمنه بـ"الردات" و"الاستثناءات". فاستراتيجية الأمن الوطني ليست ترفًا مؤسساتيًا بل ضرورة وجودية، تتطلب جرأة في التفكير، وتنسيقًا بين كل أركان الدولة، وتغليبًا للمصلحة الوطنية على أي مصلحة فئوية أو خارجية. فهل تحمل المرحلة المقبلة ما يكفي من الإرادة السياسية للنهوض بهذا المشروع؟ أم أن استراتيجية الأمن الوطني ستبقى، ككثير من الملفات اللبنانية، ضحية الخوف من النقاش؟.