الدكتور حازم بديع... الجراح الذي يعالج جراح المدينة

في المدينة التي تعبق شوارعها بعطر التاريخ، وتئن أحياؤها - لفترة - من وطأة الإهمال، يخرج من بين الركام صوت رجل لم ينكسر، بل شمر عن ساعديه وراح يرمم ما أفسدته الأيام. الدكتور حازم بديع، ليس موظفًا في هيئة، بل فكرة تمشي على قدمين، تحمل هم البيئة ووجع الإنسان. تراه حيث يجب أن يكون: في الحوارات، في الميدان، وفي أدق التفاصيل التي لا يلتفت إليها المتفرجون. يجمع بين حكمة التجربة وحرقة الغيور، بين هدوء القول وقوة الفعل. ما أصدق سعي من آمن بأن صيدا تستحق، وأن الإصلاح يبدأ من الخطوة الأولى، مهما طالت الطريق.
حين تصبح المدينة سؤالًا... والفعل إجابة
في صيدا، حيث يشتبك الزمن مع الإنسان، وتحتشد الأسئلة الكبرى في الزوايا الصغيرة، يطل الدكتور حازم كحضورٍ واعٍ في مسرح العبث. لا يُخادعه السطح، بل يغوص إلى الجذور، فيدرك أن البيئة ليست نفايات تُكنس، بل انعكاس لصورة الذات الجمعية، وأن التنمية ليست أرقامًا تُحصى، بل قيمة تُبنى. هو لا يهرب من الواقع، بل يعيد تركيبه. يتعامل مع المدينة كما يتعامل الفيلسوف مع الوجود: لا يكتفي بالوصف، بل يسعى للفهم والتغيير. إنه يؤمن أن كل حفنة تراب من صيدا تحمل سؤالًا أخلاقيًا عن علاقتنا بالأرض، وبأن الإصلاح مسؤولية لا تحتمل الترف الفكري ولا النسيان العملي.
من مشرط الجراح إلى مبضع المدينة
لم يأتِ الدكتور حازم بديع إلى البلدية من قاعات السياسة، بل من غرف العمليات. هو جراح، تعلم كيف يقترب من الجرح لا ليُدينه، بل ليُعالجه. لم تكن خلفيته الطبية عبئًا في إدارة المدينة، بل كانت امتيازًا نادرًا: فالجراح الذي يتعامل مع الحياة والموت، يعرف أن التفاصيل الصغيرة قد تصنع الفارق بين الحياة والموت. كذلك في صيدا، يعرف أن شارعًا مهمَلاً قد يعني كرامةً مهدورة، وأن حاوية نفايات متروكة قد تصبح رمزًا لانهيار الثقة بين المواطن والدولة.
خبرته في عالم الجسد المنهك، صقلته لفهم جسد المدينة المتعب. هو لا يعالج بالأدوية، بل بالقرارات، ولا يكتفي بالتشخيص، بل يذهب إلى الجذر، إلى الأسباب.
تحديات بلا مسكنات
أن تكون رئيس بلدية صيدا اليوم، يعني أن تواجه خزانًا من الأزمات: أزمة نفايات متكررة، بنى تحتية مهترئة، عجز مالي، ومطالب شعبية لا تهدأ. كل هذه الملفات تهبط على طاولة رجل لم يأتِ من خلفية حزبية، بل من خلفية ميدانية وعلمية. هذا الواقع لا يرحم الشعارات، ولا ينتظر التجارب.
وقد كانت أزمة النفايات، واحدة من أبرز التحديات التي واجهها مع بداية ولايته، حيث تساقطت الانتقادات كما تسقط الأمطار في كانون. لكنه لم يختبئ خلف التصريحات، بل نزل إلى الشارع، وتابع الحلول اليومية بنفسه، وكأنه يقول للناس: "أنا هنا، لا أراقب من برج، بل أعيش في الطابق الأرضي من معاناتكم."
وفي بلدية مواردها محدودة، ومطالب الناس لا حدود لها، يبدو أن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في "العمل"، بل في إبقاء الأمل حيًّا.
ما يقوله الناس... وما لا يقولونه
في صيدا، كما في كل مدينة، الناس لا تتحدث بلغة واحدة. هناك من يراه الطبيب الذي يليق به مبضع المدينة، وهناك من يضعه تحت مجهر التجربة، وينتظر منه ما لا يقدر عليه أحد. البعض يهمس بأن "يده نظيفة"، وآخرون يشتكون من بطء الإنجاز.
لكن اللافت أن انتقاداته - حتى حين تأتي - لا تطعن في صدقه، بل تعاتب حلمًا أكبر. وهذا ربما، أجمل أنواع النقد: أن يكون الناس واثقين من نيتك، وإن اختلفوا معك في الوسيلة.
هو لم يغادر ليعود... يا صيدا، ما عرفكِ إلا وطنًا
هو لم يغادر ليعود، لأن قلبه ما عرف فراقكِ، ولا باع حبكِ يومًا. كان فيكِ، وإن غاب صوته عن بعض المجالس، وكان لأجلكِ، وإن أُغلقت دونه بعض الأبواب. لم يكن بحاجة إلى إعلان رجوع، لأنه لم يُفكر يومًا في الرحيل.
في زواياكِ كان يسير، يقرأ الجدران كما يقرأ كتابًا قديمًا، ويصغي إلى أنين المرافق المهملة كما يُصغي العابد إلى صدى قلبه. لم يكن عابر سبيل، بل صاحب قضية، رفيق طريق، ابن بار لم يتخلف عن صلاة الانتماء، ولو تأخر عنه المصلون.
حين تساقطت أوراقكِ في خريف الإهمال، بقي يجمعها، واحدةً تلو الأخرى، ليعيد لكِ لونكِ الأخضر. لم يركِ ترابًا وأحجارًا، بل كرامةً ومصيرًا، هو لم يُعامل البيئة كملف، بل كمرآة للروح الجماعية، وفضاء للعدالة.
وحين تكلم، لم يُطالب بحقه، بل بحقكِ. وحين خطا، لم يسعَ إلى موقع، بل إلى موضع، إلى موضع جرح فيكِ أراد تضميده كجراح ماهر شهدت له المدينة.
هو لم يعد، لأنه ما غادر، وكيف يغادر من لم يرَ فيكِ مكانًا يُزار، بل قلبًا يسكنه، ونداءً لا يُخالفه؟
يا صيدا، إن كان في تاريخكِ رجال مروا، ففي حاضركِ رجل مكث، واستقر في الحُلم والهم، في العزم والرحمة.
إنه أنتِ، في وجهٍ آخر.
جراح صيدا... ونداء الكرامة
وبين جراح المدينة وأمل ناسها، يظل الدكتور حازم بديع شاهدًا ومشاركًا في معركة استعادة الكرامة الحضرية لصيدا، لا بوصفه رئيسًا لبلدية، بل بما هو عليه: رجل يحمل المدينة في قلبه، ويضعها كل يوم على طاولة التشريح، لا ليحكم، بل ليشفي بمشيئة الله.