الحكومة تتجاوز "الثقة" بتناقضاتها... ماذا عن "الامتحان" الحقيقيّ؟!

تجاوزت حكومة نواف سلام الأولى امتحان "الثقة" في مجلس النواب، بل قد يصحّ القول إنّ الكتل النيابية هي التي تجاوزت هذا "الامتحان"، بعدما اصطفّت بأغلبيّتها رغم كلّ "التناقضات" التي تنطوي عليها إلى جانب حكومةٍ أعطي بيانها الوزاري تفسيرات "متباينة"، بين من قرأ فيه استعادةً لأدبيّات سابقة ولو بصياغات جديدة، ومن رأى فيه "تمرّدًا" على كلّ ما سبق، وبالتالي "طيًّا" لصفحة تاريخية طويلة، توازيًا مع فتح صفحة جديدة لا تشبهها.
وإذا كانت الحكومة نجحت في "انتزاع" ثقة معظم هذه الكتل، باستثناء تكتل "لبنان القوي"، وعدد قليل من النواب المستقلّين، فإنّ جلسة مناقشة البيان الوزاري أفرزت قراءات "متناقضة" ليس للحكومة بتركيبتها فحسب، بل للمرحلة المقبلة بكامل أجنداتها، إن صحّ التعبير، وإن فتحت بعض الكلمات آفاقًا مختلفة وجديدة، كما فعلت كلمة رئيس حزب "الكتائب" سامي الجميل مثلاً، التي حاولت فتح نافذة للمصالحة والمصارحة، ولو من باب "المساواة".
وبمعزل عن كلّ ما دار في هذه الجلسات، فإنّ النتيجة الثابتة والحتمية تبقى أنّ الحكومة تجاوزت عمليًا امتحان "الثقة"، وبدرجة امتياز، إلا أنّ "الامتحان" الحقيقيّ هو ما ينتظرها بعد ذلك، فما يهمّ الناس عمليًا، ليس "تقاطع المصالح" ربما بين هذا الفريق وذاك، ولا حتى "التوافق الضمني" النادر بين "حزب الله" و"القوات اللبنانية" مثلاً على دعم حكومةٍ، تعتبر الثانية أنّ "مشروعها" هو نزع سلاح الأول، بل ربما إنهاء "مشروعية" المقاومة.
ما يهمّ الناس هو "الأفعال" التي تحدّث عنها رئيس الحكومة أساسًا في كلمته الختاميّة، حين قال: "احكموا علينا بالأفعال"، فهل تكون الحكومة فعلاً على قدر "الثقة" بالأفعال، لا الأقوال؟ وكيف تستعدّ للامتحان الحقيقيّ، على مستوى عناوين المرحلة، من مواجهة الموضوع الأمني "شبه المستعصي" في ظلّ الخروقات الإسرائيلية المتواصلة للسيادة اللبنانية، إلى الانطلاق بالعمل على خطّ "الإصلاح والإنقاذ"، وهما بالمناسبة ركنا العنوان الذي اختارته الحكومة لنفسها؟.
في المبدأ، يقول العارفون إنّ من تابع جلسة مناقشة البيان الوزاري، أدرك أنّ الحكومة نجحت في جمع "التناقضات" فعلاً، ولعلّ ذلك يشكّل "تحديًا أول" في طريقها، حيث يبدو أنّها ستسير بين ألغام التفسيرات "المتناقضة" لبيانها الوزاري، خصوصًا بين معسكري "حزب الله" و"القوات اللبنانية"، علمًا أنّ المقاربة الأمنية المنتظرة منها على خط مواجهة الخروقات الإسرائيلية قد تكون "مفصليّة" في هذا الإطار.
في هذا السياق، ثمّة من وجّه انتقادات لـ"حزب الله" مثلاً، باعتبار أنّه "يناقض نفسه" في مكانٍ ما، حين يمنح الثقة لحكومةٍ "لم تتجرّأ" حتى على ذكر عبارة "مقاومة" في بيانها الوزاري، فيما يتّهمها بعض المحسوبين على الحزب بأنّها تنفّذ إملاءات خارجية، بل يعتبرون أنّها تأتي بـ"أمر عمليات" أميركي، بدليل أنّ القرار الأول الذي اتخذته كان "حظر" الرحلات القادمة من إيران إلى مطار بيروت الدولي.
إلا أنّ المتابعين يلفتون إلى مقاربة "مغايرة" للأمر، فالحزب هو الذي "يحتاج" إلى هذه الحكومة بصورة أو بأخرى، وهو لذلك غضّ النظر عن الكثير من التفاصيل، وربما التحفّظات، من أجل حجز موقع له في صفوفها، بدءًا من قبوله بالأمر الواقع الذي "فُرِض عليه" يوم سمّت الأغلبية النيابية نواف سلام خلافًا لإرادته، وصولاً إلى التعاون مع سلام بعد "تخوينه" من قبل جمهوره، فضلاً عن القبول بإقصاء حلفائه، مقابل تكبير حجم "القوات"، بل ومنحها حقيبة الخارجية.
ويشدّد هؤلاء على أنّ ما يفسّر كلّ ذلك هو أنّ الحزب يريد أن يتعاون مع هذه الحكومة، بمعزل عن كلّ الحيثيات، خصوصًا على مستوى التحدّي الأساسيّ الماثل أمامها، ربطًا بالحرب الإسرائيلية الأخيرة، والذي ينقسم إلى شقّين، أولهما الضغط من أجل تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، بالسبل الدبلوماسية، بما ينسجم مع خطاب الركون إلى الدولة، وثانيهما إعادة إعمار القرى المهدّمة، وهي مسؤولية كبرى يريد الحزب أن تتحمّل الدولة أيضًا.
وعلى أهمية الاستحقاق الأمني الذي ينتظر الحكومة، فإنّ العارفين يشدّدون على أنّ "الامتحان الحقيقي" قد يكون في مكانٍ آخر، بما ينسجم مع عنوان "الإصلاح والإنقاذ"، وهو ينطلق من سلّة التعيينات التي تنتظر أول اجتماعات الحكومة، وسط "شواغر" في المواقع القيادية العليا تحتاج لمن يملأها، ويمتدّ إلى ورشة "الإصلاحات" المجمّدة منذ أشهر طويلة، فضلاً عن الاستحقاقات الانتخابية التي ما عاد جائزًا التعامل معها بمنطق التمديد والتأجيل.
في هذا السياق، يتحدّث العارفون عن تحدّيات "دسمة" تنتظر الحكومة، تتصدّرها "سلّة" التعيينات التي يترقّبها الجميع، والتي تشمل مواقع أساسيّة، إدارية وعسكرية وقضائية، من بينها على سبيل المثال لا الحصر، قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان ومديرية الأمن العام وغيرها، ما يعني أنّ ثمّة ما يشبه "إعادة الهيكلة الكاملة" التي يفترض بالحكومة أن تنجزها، من دون إبطاء أو مماطلة، خصوصًا أنّ معظم المناصب العليا لا تزال تُدار بالوكالة أو النيابة.
وبانتظار هذه التعيينات، التي قد تشكّل امتحانًا صعبًا للحكومة التي تعهّد رئيسها بتغليب "الكفاءة" على المعايير المعتادة، من محسوبيات وطائفية، ينتظر كثيرون أيضًا ورشة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي ينبغي على الحكومة أن تباشر بها، وبعضها مجمَّد منذ سنوات، علمًا أنّ المساعدات الدولية الموعودة للبنان "مشروطة" بالكثير من هذه الإصلاحات، التي قد يكون بعضها قاسيًا شعبيًا، خصوصًا إذا ما لبّى شروط المؤسسات الدولية المانحة.
وبين التعيينات والإصلاحات، وقبلهما الملف الأمني الذي يبقى هاجسًا أساسيًا، ثمّة استحقاقات انتخابية أساسيّة تنتظر الحكومة، أولها الاستحقاق البلدي والاختياري المؤجَّل بدوره منذ ثلاث سنوات، والذي يفترض بالحكومة إنجازه قبل نهاية شهر أيار، إن لم تذهب إلى تمديد "تقني" تتداوله بعض الأوساط، وثانيها الاستحقاق النيابي المفترض العام المقبل، علمًا أنّ "طيف" هذه الانتخابات بدأ يظهر في كلّ الاستحقاقات، بلا استثناء.
في النتيجة، ليس خافيًا على أحد أنّ تحدّيات "ثقيلة" تنتظر الحكومة، التي قد يكون امتحان "الثقة" الذي تجاوزته، وقبله التأليف بتعقيداته الكثيرة، مجرّد "تحمية"، إن صحّ التعبير، قبل الامتحان "الحقيقي"، امتحان لا يقتصر على الهاجس الأمني على أهميته، بل يصل إلى صلب "الإصلاح والإنقاذ"، بعيدًا عن الطرق التقليدية، فهل تكون الحكومة على قدر "الثقة" التي أعطيت لها، بل قبل ذلك، على قدر العنوان الذي اختارته لنفسها؟!