نظام مصرفي جديد على أنقاض الودائع!
ساهمت غالبية تعاميم مصرف لبنان وبشكل كبير في تكريس الخلل بين المصارف والمودعين، إذ منحت الأولى سُبلًا لتضخيم احتياطاتها وتحقيق أرباح إضافية من الإقراض والرسوم التي تفرضها، فيما ظلّت حقوق المودعين مُهمَّشة ومقيَّدة. ويشكّل التعميمان رقم 722 و723 امتدادًا لسلسلة تعاميم صدرت عن مصرف لبنان منذ بدء الأزمة المالية في أواخر العام 2019، هدفت ظاهريًا إلى إنقاذ القطاع المصرفي عبر توفير السيولة وتعزيز إمكانية التسليف في حين أثبت تطبيقها عملياً خلاف ذلك.
في مطلع كانون الثاني 2025، صدر التعميم رقم 722 ليُتيح للمصارف إدراج الحسابات القديمة بالليرة اللبنانية، أي تلك المسجّلة قبل 19/4/2023، جنبًا إلى جنب مع الحسابات الجديدة عند احتساب نسبة الاحتياطي الإلزامي. إلا أن الإشكالية الجوهرية تكمن في أن الحسابات القديمة، سواء العائدة إلى ما قبل عام 2019 أو المسجلة قبل 19/4/2023، قد فقدت جزءًا كبيرًا من قيمتها الفعلية بفعل التضخم، في ظل تعدّد أسعار الصرف خلال هذه الفترة. وهو ما يجعل الحسابات القديمة بالليرة اللبنانية مختلفة من حيث قيمتها الاسمية، وقدرتها الشرائية، وأساس احتسابها، مقارنةً بالحسابات الجديدة.
خدمة للمصارف
من الناحية العمليّة، تسعى المصارف إلى عدم المبالغة في احتساب الودائع القديمة ضمن الاحتياطي، لأنّ عليها أن تحفظ جزءًا من هذه الودائع لدى مصرف لبنان، بحيث كلّما ارتفعت قيمة الاحتياطي الإلزامي، انخفضت سيولة المصرف المتوفّرة للتوظيفات الأخرى. لكنّ واقع الحال يُظهر أنّ تطبيق التعاميم والرقابة عليها منعدماً، بحيث توفّرت للمصارف سُبل مختلفة للالتفاف أو لتخفيض الاحتياطي الفعلي.
من الناحية الفعلية، إن معاملة الحسابات بشكل متساوٍ رغم اختلاف أصلها، تُستخدم بشكل رئيسي لتحسين المظهر المالي وميزانية المصارف، والبناء عليها لتكوين أحتياطها. هذه الخطوة تخدم المصارف أكثر مما تخدم المودعين، لأنها:
1 - تعزز الاحتياطيات الإلزامية على الورق من دون قيمة حقيقية، تبعاً لاختلاف سعر صرف أحتسابها.
2 - تغطي على الانهيار المستمر لقيمة الحسابات القديمة، وخدمة للمصارف عبر تغطية تخفيض التزاماتها بالدولار ضمن النظام المصرفي القديم. فمع تفاقم الأزمة، بدأ سعر الصرف بالتصاعد تدريجيًا وصولًا إلى 15000 ليرة للدولار بموجب التعميم الوسيط رقم 657، الذي سمح للمصارف بتسديد المبالغ بالعملات الأجنبية المستحقة بالليرة اللبنانية ضمن سقف 1600 دولار شهريًا للحساب الواحد على أساس سعر صرف 15000 ليرة للدولار، وما سبقه من تعاميم ذات صلة. بالإضافة، إلى التعميم 158 الذي كان يقسم مبلغ 400 دولار امريكي إلى 200 دولار نقداً، و200 دولار على أساس سعر صرف 12000 ليرة لبنانية.
3 - تشرعن النظام المصرفي الجديد المبني على "الدولار الفريش" والليرة الجديدة، بينما تتجاهل محاسبة المصارف عن فقدان أموال المودعين.
من جهة المصرف المركزي، ممثلاً بالحاكم بالانابة الدكتور وسيم منصوري، قد يكون من أسباب تضمين الودائع القديمة ضمن احتساب الاحتياطي محاولة للحفاظ على صورة المصارف وكأنّها لا تزال لديها قاعدة ودائع كبيرة تمثّل نوعًا من "الملاءة" الظاهريّة، معطوفة على أنجازات وحضور مؤتمرات في الخارج وزيادات في حجم الاحتياطي على أختلاف أنواعه، وتسمياته الجديدة. أو لربماً قربان للمصارف في سبيل جهاده إلى وزارة المالية.
استئناف عمليات الإقراض
أما التعميم رقم 723، فجاء مكمِّلًا للتعميم 722، إذ سمح للمصارف باستئناف عمليات الإقراض بالدولار الأميركي – ولكن فقط بما يُعرف بـ"الدولارات الجديدة" وفقًا للتعميم رقم 165 الصادر بتاريخ 19 شباط 2023، الذي نظّم العمليات الإلكترونية للحسابات بالدولار والليرة المعرّفة بـ"الفريش "(Fresh)، وأدخل مفهوم "الأموال النقدية" التي دخلت إلى الحسابات المصرفية بعد 17 تشرين الثاني 2019. إضافةً إلى ذلك، منح المصارف استمرارية استكمال عمليات الإقراض بالليرة اللبنانية، وهكذا عادت المصارف إلى ما كانت تمارسه قبل الأزمة: خلق المال عن طريق التسليف وتحقيق الأرباح والفوائد.
بالممارسة الفعلية، تتيح الحسابات المقوَّمة بالليرة اللبنانية للمصارف قدرة على خلق النقود بالعملة المحلية، إذ تستطيع المصارف، بموجب التعميم 165، منح القروض بالليرة دون الاضطرار إلى شراء الليرات من المصرف المركزي بالدولار أو دفع فوائد مرتفعة عليها ضمن النظام المصرفي الداخلي. فعلى سبيل المثال، حين يوافق المصرف على تمويل مشروع أو إقراض عميل معيَّن بالليرة، ينشئ في الوقت ذاته وديعة جديدة لدى العميل بالمبلغ نفسه، فيرتفع بذلك إجمالي السيولة المتداولة بالليرة في السوق. هذه الآلية تنسجم مع ما أكدته دراسة صادرة عن المصرف المركزي الإنكليزي (Bank of England) بشأن كيفية خلق المصارف التجارية للنقود (McLeay et al 2014)، إذ تُنتج المصارف أصولًا والتزامات بشكل متزامن عند منح الائتمان. بذلك، تتفادى المصارف استنزاف "الدولارات الجديدة"، وتُبقي على العملة الصعبة في حساباتها لتعزيز سيولتها الخارجية أو توظيفها في مجالات أكثر ربحية، مستفيدةً من الفوائد والعمولات على القروض بالليرة وعلى القروض بالدولار. يظهر هذا الأمر جليًّا من خلال الرسوم العالية التي تفرضها المصارف على العملاء دون رقابة، وبشكل فاحش، فيما يبقى المودع ضمن الحسابات القديمة محرومًا من أي خدمة مصرفية فعلية.
يتضح أنّ التعميم رقم 723 حظر على المصارف منح قروض أو تسهيلات جديدة بالدولار الأميركي من غير "الأموال النقدية" (وفقًا للتعميم 165)، أي إنّه حصر عمليات التسليف بالدولار الجديد من دون المساس بحسابات الدولار القديمة المحتجزة، انسجامًا مع القرار الوسيط رقم 13600 الصادر في 28 كانون الأول 2023، المتعلق بإعادة تقييم جميع الأصول العقارية المملوكة من المصارف وفق معايير جديدة، قبل 31 كانون الأول 2024، أي قبل صدور التعميم رقم 723 بأيام معدودة. ويعني هذا عمليًّا إعادة تقييم موجودات المصارف وفق سعر صرف 89500 ليرة للدولار، بينما بقيت الحسابات القديمة المسجّلة بالدولار خارج أي تقييم أو معالجة.
نهج قديم - جديد
وعليه، أمام وضع الأساس لنظام مصرفي جديد (التعميم رقم 150)، واعتماد سياسة "التعاميم البديلة" لتطبيق القوانين (التعميم رقم 154)، وتنظيم العمليات الالكترونية للحسابات المرتبطة بالدولار والليرة الفريش (التعميم رقم 165)، لم يتبقَّ أمام المصارف سوى العودة إلى ممارسة طبيعة عملها السابقة والمتمثلة في التسليف، ضمنها تقديم القروض (التعميم رقم 723، وما سبقه من تعاميم ذات صلة)، وذلك عبر خلق المال داخل النظام المصرفي من خلال عمليات التسليف. وبات المشهد أكثر وضوحًا حين عادت المصارف إلى نهج قديم - جديد يرتكز على توسيع نشاط التسليف لتحقيق الإيرادات، وتخصيص جزءٍ بسيط من عائداتها لإعطاء المودعين مبالغ متواضعة، أو السماح لهم بتحويل ليراتهم إلى دولارات بسعر رسمي أدنى بكثير من سعر الصرف المعتمَد في تقييم أصول المصارف.
بهذا الأسلوب، ومن خلال نهج "الحاكمية المتجددة"، تبقى المصارف بمنأى عن أي مساءلة جدّية، فيما تبني نظامًا مصرفيًا جديدًا على أنقاض النظام القديم الذي يُفترض أنّ ودائعه مضمونة ومحفوظة في حساب خاص لدى مصرف لبنان لصالح "المؤسسة الوطنية لضمان الودائع".
بالمحصّلة، يتجدّد هذا النهج القديم، ويستمر النظام المصرفي في ارتكاباته دون محاسبةٍ فعلية، لكن في ثوبٍ مُحدَّث يتكيف مع مقتضيات المرحلة الراهنة. وهكذا، تبقى الحسابات المقيَّدة بالدولار قبل 17 تشرين الثاني 2019 تحت ركام نظامٍ مصرفيٍّ مُنهار، في وقتٍ تستغل المصارف المساعدات الدولية لإحيائه وإعادة بنائه. وما لم تُفرض ضوابط واضحة تحمي الودائع وتحدّ من اجتهاد المصارف في احتساب الاحتياطي وطريقة توظيفاتها وأرباحها وعمولاتها، مع إخضاعها للرقابة الدقيقة والمحاسبة الجدية، ستظلّ هذه الأزمة تراوح مكانها، مكرّسةً انعدام الثقة بالنظام المصرفي ومؤجلة للتعافي الاقتصادي المنشود.