مصرف لبنان في 2024: صمودٌ وانتصار!
لم يكن يتوقّع أحدٌ أن يصمد مصرف لبنان المركزي خلال الحرب التي شهدها لبنان بين إسرائيل و"حزب الله". كانت القراءات تحذّر من "انهيارٍ نقدي حتمي"، لكن أثبتت الوقائع، خلال وبعد الحرب، ان معظم الوزارات والمؤسسات والإدارات في لبنان تجمّد إنتاجها، وأصابتها تداعيات الحرب فتعطّلت، وتضرّرت، وانكفأت، باستثناء "المركزي" الذي ثبّت استقراراً نقدياً، وزاد من كميات الدفعات للمودعين بموجب التعاميم، ولم يمس بالإحتياطي الأساسي.
يُمكن هنا الجزم أنّ مصرف لبنان كان مؤسسة العام 2024. فكيف حصل ذلك؟
لا بدّ اولاً من الإقرار أنّ أي خطوات نقدية مصرفية، لا استمرارية لفعاليتها، من دون اصلاح عام يبدأ بإقرار القوانين لبتّ قضية المودعين والتجاوب مع ارشادات البنك الدولي وصندوق النقد، لاعادة التعافي المالي في لبنان، وهو ما يجعل صفة "الهش" تلازم وصف الاستقرار في لبنان، طالما لم تحصل اصلاحات عبر القوانين.
رغم ذلك، يمكن الإشارة إلى "المركزي" بصفته نموذجاً يُحتذى به حالياً في العمل المؤسّساتي المُلتزم بالارشادات والتعليمات الدولية، وهو ما اكدته مقدمة تقرير مجموعة "فاتف" التي أدرجت لبنان في اللائحة الرمادية، فأوردت أنّ مصرف لبنان أنجز واجباته كاملة، وهو ما جنّب عملياً الآثار السلبية جرّاء وضع لبنان على تلك اللائحة، وخصوصاً أنّ تقرير "فاتف" لم يذكر شيئاً عن “cash economy”، مما يدلّ على أنّ اداء "المركزي" ملتزم بالإجراءات الدولية في هذا المجال، لجهة الامتثال وتطبيق المعايير النقدية العالمية.
عندما نفّذ حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري خطة بيع الليرة اللبنانية مقابل الحصول على الدولار، اخضع مساراتها للرقابة والشفافية، فاستطاع ان يرفع الاحتياطي بالعملة الاجنبية، قارب منذ استلام منصوري ولغاية شهر ايلول الماضي مبلغ الملياري دولار، وهو ما ثبّت الاستقرار النقدي طيلة ايام الحرب، فدفع مصرف لبنان حوالى ٤٠٠ مليون دولار، من المبلغ المذكور لأصحاب الحقوق المودعين عبر زيادة دفعات التعاميم، إضافة إلى رواتب الموظفين.
وتبيّن حالياً ان "المركزي" عاد إلى رفع احتياطه مجدداً، بشكل يسمح له بزيادة سحوبات المودعين بشكل دائم، إلى حين اقرار المشرّعين قوانين تحلّ قضية الإيداعات بشكل جذري. وتلك هي مهمة المجلس النيابي، الذي اثبتت فيه ايضاً لجنة المال والموازنة انها قادرة على صياغة مخارج، الاّ ان الكرة ستكون في ملعب الكتل النيابية مجتمعة، التي يعود لها القرار في شأن التصويت على اقتراحات القوانين في الهيئة العامة.
يُسجل ايضاً لمنصوري، انه انجز في عام 2024 مأسسة المصرف المركزي وفق المعايير الدولية ايضاً. يروي موفدو البنك الدولي وصندوق النقد كيف صار بإمكانهم التعامل بشفافية مع "المركزي" في لبنان، بما ينسجم مع المعايير الدولية، وهو ما تلمسه ايضاً الحكومة ووزاراتها التي باتت حساباتها وموازناتها في مصرف لبنان مفصّلة وواضحة في المداخيل والمصاريف النقدية. وللمرة الأولى، منذ عقود، تحقق الدولة وفراً بلغ 600 مليون دولار، بعد ان كان العجز يصل إلى بضعة مليارات دولار سنوياً، نتيجة التعاون بين وزارة المال ومصرف لبنان.
تتعدّد انجازات المصرف المركزي، وتغيب الاخفاقات، ليشكّل الاستقرار النقدي انجازاً مهماً، وانطلاقة نحو تحسين وضع الليرة اللبنانية لاحقاً.
وفي حال اتجه لبنان نحو استقرار سياسي، فمن المؤكد ان سعر الصرف سيتغيّر نحو تحسين قيمة الليرة، بعد معرفة حجم العملات الاجنبية الموجودة في المنازل، وترتيب الدورة الاقتصادية، بشكل لا يعيد تفلّت سعر الصرف. اولوية اللبنانيين الان هي الاستقرار النقدي، لا الارتفاع او الانخفاض، الذي يعيد المضاربة المضرّة بالاقتصاد والناس.
بكل الحالات سيرتفع الاحتياطي بالدولار مجددا، ليشكّل سنداً لزيادة نسبية في دفعات المودعين، وأملاً بالحصول على حقوقهم، خصوصاً ان "المركزي" اجتاز معمودية النار في الحرب بنجاح لافت، ونال اشادات المجتمع المالي الدولي بكل مؤسساته وتفرّعاته الأوروبية والاميركية والعربية.
ويُسجّل هنا للحاكم بالإنابة انه اعاد انتظام العلاقات مع الخارج، ونجح في كل لقاءاته الباريسية واللندنية والاميركية والخليجية العربية المتعددة، في اعادة "المركزي" اللبناني إلى دائرة التواصل والاهتمام الدولي، وهي مسألة اساسية لا يمكن تجاوز إيجابياتها.