"الإنترنت" في زمنَيّ السلم والحرب... أسوأ السيناريوات لم يأتِ بعد
في زمن الحرب أم في السلم، من أميركا أو من الصين، "شرعي" أم "ديك حي"، يتّفق اللبنانيون على أن الإنترنت وتوفيره ليس "ترفاً"... لا بل تزداد أهميته في الأزمات ويشكل واحداً من مقومات الصمود. وانطلاقاً من هذه المعادلة، يكون على أي خطة طوارئ توضع للحالات الاستثنائية، مقاربة تحدياتها الحقيقية، عبر رصد مبكر لها، وسرعة استجابة في حلّها. فالشبكة المستقرة مطلب الناس، كل الناس، والمراوغة في تأمينها "شراكة في التسبب بتدميرها". وهذا ما يتطلب تحديد أولويات التدخلات بما ينسجم مع تطورات الميدان، والتي لم يعد خافياً أنها تبدلت كثيراً منذ عدوان إسرائيل على لبنان في العام 2006 وحتى اليوم.
عن تحديات قطاع الاتصالات في زمن الحرب، يعتبر محمد نجم، المدير التنفيذي لمنظمة "سمكس" التي تعنى بالحقوق الرقمية "أن الحرب التي اتخذت وجهاً مختلفاً بين عدواني 2006 و2024، ترافقت هذه المرة مع تزايد أهمية الإنترنت في حياة الناس، ما جعل حماية حقوق المواطنين الرقمية وقدرتهم على التشبيك والاتصال مطلباً أساسياً".
حتى حجم الأضرار التي لحقت بقطاع الاتصالات تبدو مختلفة هذه المرة. وبحسب وزير الاتصالات جوني القرم "فقد تفوقت أرقام عام 2024 على 2006 بشوط كبير. مع أنه لا يجوز تقييمها نهائياً قبل انتهاء العدوان". فقد قدر القرم قيمة هذه الأضرار في اتصال مع "نداء الوطن" بـ بنحو 117 مليون دولار. علماً أن رقماً سابقاً رفعه القرم في كتاب موجه قبل نحو شهر إلى لجنة الطوارئ الوزارية لتقديمه إلى مؤتمر باريس، وبلغ 67 مليون دولار، شمل إلى جانب كلفة الحرب، نفقات إضافية لتأمين متطلبات القطاعات الاستشفائية والإغاثية، التعليم عن بعد، ومراكز الإيواء.
في المقابل يتحدث القرم "عن تسع محطات تابعة لشركة "تاتش" دمرت كلياً و11 بشكل جزئي، بينما عدد محطاتها الواقعة خارج الخدمة ارتفع إلى 175، كذلك هي الحال بالنسبة لـ Alfa حيث هناك 161 محطة خارج الخدمة، عشر منها دمرت كلياً أو جزئياً".
ما ذكر يعني أن "الأعطال" في المحطات أكبر بكثير من "أضرار العدوان". فما المقصود بها؟ يجيب القرم "إما أن المازوت لم يتوفر للسنترالات أو الصيانة، فنحن نرصد الأعطال لكننا لسنا قادرين على تحديد أسبابها".
فأين هي إذاً خطة طوارئ الاتصالات الموضوعة لزمن الحرب؟
في الذكرى السنوية لعرضها على طاولة مجلس الوزراء في 29 تشرين الثاني 2023، يعيدنا الحديث عن خطة الاتصالات الموضوعة للحرب، الى الـ PLAN B (الخطة ب) ومطلب وزارة الاتصالات الأساسي لموافقة الحكومة على هبة جمعية P FOUNDATION لتقديم 150 جهاز "ستارلينك" كان يفترض أن توزع على المؤسسات الحكومية والإغاثية. مع ان القرم شدد حينها على أن هناك أيضاً PLAN A و PLAN C إلا أنه أبقاهما طي الكتمان "لضرورات السرية الأمنية".
أسوأ السيناريوات
بنيت الخطة (ب)، التي استغرقت ولا تزال نقاشات مطولة، على أسوأ سيناريوات استهداف البنية التحتية الأساسية لشبكة الاتصالات وضرورة تأمين وسيلة تؤمن تواصل أجهزة الدولة في ما بينها ومع الهيئات الإغاثية ومع دول الخارج. إلا أن هذا السيناريو لم يقع فعلياً. وبعد ستين يوماً من توسّع العدوان إلى مختلف الأراضي اللبنانية، باغتت إسرائيل وزارة الاتصالات باستهدافات حربية خالفت توقعاتها، وهذا ما جعلها بلا خطة لتأمين الإنترنت لعموم الناس، خصوصاً في المناطق التي صنفت حمراء.
ساهمت موجة النزوح التي رافقت العدوان في المقابل، في حفظ ماء وجه الوزارة من اخفاقاتها. ومع أن صرخة أهالي المناطق المستهدفة من انقطاع الإنترنت بقيت خافتة، إما بسبب نزوح أهلها، أو بسبب عدم امتلاكهم وسائل إيصال هذا الصوت، فقد خرج أحدهم بشكل معبّر من منطقة رميِش، التي انتظر أهلها الصامدون طويلاً قبل أن تصل فرق الصيانة وتؤمن احتياجات سنترالاتها بمواكبة عسكرية.
لسنا في هذا السرد بمعرض تجاهل المخاطر التي واجهت فرق الصيانة بمهمتهم، والتي توّجت باستشهاد أحد فنيي شركة Powertech المتعهدة أعمال الصيانة لشركة touch خلال تأديته مهمته.
إلا أن الظروف الإستثنائية التي تسبب بها العدوان وفقاً لما يشرحه خبير اتصالات فضّل عدم ذكر اسمه "كان يفترض أن تشكل حافزاً إضافياً للبحث في خطة توفر إجراءات استباقية وجهوزية أكبر، سواء لفرق الصيانة وموظفي شركات الاتصال التي وجب تزويدها بمقومات الصمود، حتى لا تنزح مع سائر النازحين، أو في تأمين وصول المازوت او تخزينه لاستخدامات السنترالات، والتشبيك مع الأجهزة الأمنية من جيش وحتى قوات "اليونيفيل" للحفاظ على أدنى مقومات التواصل" معتبراً "أن إغفال وزارة الاتصالات لهذه الإجراءات جعلها عمياء في مقاربة الاحتياجات، لننتهي بعد ستين يوماً من توسع العدوان إلى نتيجة واحدة وهي لا خطة" لوزارة الاتصالات لمرحلة الحرب".
خدمة "ستارلينك" الحاضرة الغائبة
ما زالت "ستارلينك" رغم كل ما ذكر قيد نقاش متقطع تحتمه الهواجس من انقطاع الشبكة كلياً عن لبنان. وقد قفزت إلى الواجهة مجدداً في موازاة ما عبّرت عنه الهيئات الاقتصادية في لقاء جمعها مع القرم في السابع من تشرين الثاني الجاري، من خشية لانعكاس تردي أحوال الشبكة على استثماراتها.
بحسب القرم إن شركة ستارلينك التابعة لـ (SpaceX) التي أسسها إيلون ماسك، "تضع كل الذرائع لعدم تقديم الداتا للسلطات الأمنية اللبنانية، وآخر اقتراح لها تضمن تجميع "الداتا" في ألمانيا او في قطر، وهذا ما رفضته أيضا السلطات الأمنية". وإذا كان التواصل عبر "ستارلينك" ليس الوحيد المطروح، وإنما تعمل وزارة الاتصالات على اتجاهين موازيين، تجنب القرم الخوض بتفاصيلهما، فقد كشف في المقابل "أن جميع الطروحات تحتاج لموافقات أمنية مسبقة، لم تحصل عليها الوزارة".
إلا أن البحث في الحلول المقترحة عبر الأقمار الاصطناعية يبقى مقبولاً على رغم كلفتها المرتفعة، لو أن لبنان خسر خياراته الأقل كلفة، وفقاً لقراءة خبيرة. "أما وقد مرّ ستون يوماً من دون حصول أي خلل في الكوابل البحرية، فالأولى إيلاء الأهمية لتحسين جودة خدمة الإنترنت المقدمة عبرها، وتقوية المحطات بما تفرضه تحديات العدوان سواء في المناطق المتضررة مباشرة، أو في المدن والبلدات الآمنة التي أوت النازحين".
خطط وإخفاقات
في اتصال مع مدير عام هيئة أوجيرو عماد كريدية لمتابعة جهوزية الهيئة في تدخلات لحاجات تربوية، ذكّر بمقولة للرئيس الاميركي بنجامين فرانكلين تقول A failure to plan is a plan fail ( الفشل في التخطيط هو بمثابة تخطيط للفشل). جاءت استعادة المقولة في معرض حديثه عن عدم تقديم وزارة التربية خطة واضحة لأوجيرو تتيح لها تقييم واقع مراكز الإيواء، للمباشرة بتجهيزها بالـ Public Wi-Fi "متى توفر التمويل". علماً أن البحث جار عن هذا التمويل عبر مصدرين وفقاً للقرم، إلا أنه يتجنب الكشف عنهما قبل بلوغ النتائج النهائية كما يقول.
غير أن مقولة فرانكلين نفسها يمكن إسقاطها على مسار ساد في مقاربة ملف الاتصالات، منذ بدء حرب الإسناد والمشاغلة التي ورط بها "حزب الله لبنان"، وما شابه من مخاوف عزل لبنان عن العالم، مروراً بالإخفاقات في الحفاظ على استقرار شبكة الإنترنت في المناطق المستهدفة مباشرة أو البلدات التي أوت النازحين، وصولاً إلى الأطماع التي ولّدتها الحرب لدى محتكري الخدمة من "ديوك الحي".
فبعد نحو شهر على ورقة القرم إلى مؤتمر باريس، لا تزال مراكز الإيواء بيئة غير مجهزة رقمياً للتلاميذ ليتابعوا دراستهم. وفيما يعتبر المدير التنفيذي لـ "سمكس" أن رزم "الجيغابايت" المجانية التي وزعت على التلاميذ وأساتذتهم في الأسبوع الماضي "خطوة إيجابية يمكن البناء عليها"، فإن التأخير في تجهيز مراكز الإيواء بالإنترنت يؤثر سلباً على نحو 20 في المئة من الأطفال الذين قد لا تتاح لهم فرصة مساوية للتعلم عن بعد. علماً أن كريدية ليس مقتنعاً بفعالية إشراك شركتي الموبايل في خطة التعليم عن بعد، لأنها برأيه "ستخلق ضغطاً كبيراً على شبكتهما، وتعتبر مكلفة جداً". وبالتالي يرى "أن الـ ـ Wi-Fi والتجربة الناجحة التي خاضتها أوجيرو خلال جائحة كورونا يمكن البناء عليها".
ديوك الحي ديوك حرب وسلم
يوافق نجم على أن تقوية شبكة أوجيرو وإتاحتها في مراكز النزوح ومناطقها، تحافظ على جودة الاتصالات بالنسبة لسائر مستخدمي شبكتي "ألفا" و"تاتش". إلا أن هذه الشبكة تبقى عرضة لأطماع يصعب ردعها، خصوصاً في زمن الحرب والفوضى.
على أثر ما رصدته وزارة الاتصالات من استغلال الناس بخدمة الإنترنت المتوفرة عبر "ديوك الحي" خرج وزير الاتصالات لإدانة الأمر عبر منصة "إكس" داعياً المتضررين لرفع أي شكوى إلى وزارة الاقتصاد". لكن القرم لم يبدِ في اتصال معه "أي متابعة إضافية لهذه الشكاوى" معتبراً "أن علاجات هذا الملف تكون عبر تطبيق المرسوم 9458 الذي وضع أطراً لتنظيم القطاع".
في المقابل رسم ديوان المحاسبة وهيئة التشريع والاستشارات، خريطة طريق قانونية لتطبيق هذا المرسوم. ففي غمرة الحرب المستمرة على لبنان، أصدر الديوان قراراً في 25 تشرين الأول الماضي، حثّ فيه وزارة الاتصالات على ضبط جميع الشبكات المنشأة خلافاً للقانون، رافضاً أي عقد صيانة يوقّع مع هؤلاء وفقاً للمقترح من وزارة الاتصالات، من دون ضبط المخالفات وإحالتها على القضاء، منعاً لتأبيدها وبالتالي "تحوّل الأحكام الواردة في المرسوم رقم 9458/2022 في خصوص الشبكات المخالفة، من أحكام تضع خريطة طريق لإرساء الشرعية، إلى أحكام تطبيع مع اللادولة واللاشرعية ومع الخارجين عن القانون".
في الموازاة، صدر عن هيئة التشريع والاستشارات رأي استشاري بناء لطلب القرم، رفضت من خلاله الآلية المقترحة لتغريم مزودي خدمة الإنترنت الـ ISP الذين قاموا بتأجير سعاتهم خلافاً للأصول لديوك الحي، ودعت القرم إلى تطبيق المرسوم 956 الصادر منذ العام 2017 والذي ينص صراحة على إلغاء قرار تأجير الخطوط الدولية المخصصة للإنترنت وتغريم كل مخالف بتأجير السعات.
سألنا القرم عن ذلك فأبدى عدم اقتناعه بالإجابتين، رامياً الكرة في ملعب وزارة الاقتصاد، أو الـ "لا حلّ"، خصوصاً في ظلّ تجارب الناس التي أثبتت عدم جدية الدوائر الرسمية في ملاحقة أعمال الغش والاحتكار. وأبدى استعداده "لإعادة مناقشة ديوان المحاسبة بقراره وشرح وجهة نظره من المشروع المقترح وأهدافه".
ماذا عن اليوم التالي للحرب؟
إذا كان ملف الإنترنت غير الشرعي يشكّل أحد الملفات العابرة للحروب وظروفها، ماذا عن اليوم التالي لانتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان؟ هل هناك خطة لمواكبة عودة الناس بإعادة ربطهم بشبكة الانترنت أم أن الحل سيكون بالقطعة أيضاً مثل السائد في ظلاستمرار العدوان؟ يقول القرم "إن مرحلة ما بعد الحرب قد تكون الأصعب بالنسبة لقطاع الاتصالات، لأننا سنكون في مواجهة مباشرة مع انعزال مدن وقرى بأكملها عن الشبكة". في هذا الإطار رأى نجم أنّ الأمر "سيتطلب تخطيطاً مسبقاً تجنباً لسقطة غياب خطة الحرب نفسها. فهناك أماكن مدمرة بالكامل، وهناك توزع سكاني مختلف يفرض إعادة توزيع الشبكات بما يمكّن كل الناس من التشبيك والتواصل، والتخطيط لهذا الأمر ليس سهلاً الآن، لكن من الملحّ البدء ببحثه، طالما الكابل البحري يعمل".
لكن، من أين سيتوفر التمويل لكل ذلك؟
يقول القرم "لا مشاكل مادية لدى كل من "ألفا" و"تاتش"، وهما قادرتان على استيعاب الضرر، خصوصاً أن هناك تأمينات تغطي تكلفة الأضرار التي لحقت بهما. وأما بالنسبة لأوجيرو فهناك مساعٍ بدأت لتوفير محطات هوائية تعرف بالـ Link Detection and Estimation LDE وهو نظام يسمح بتحسين أداء الشبكة عن طريق تحديد مشاكلها المحتملة، وهذا سيتطلب دعماً، بدأ البحث بشأنه مع الصين".
فهل يكون الحل الآتي عن طريق الصين أفضل مما اقترح تأمينه من أميركا عبر خطة (ب) التي سبق وأعدتها الوزارة؟