ما بعد ردّ "الحزب": ارتياح اللبنانيين ونقمة المستوطنين!
لأسابيع، استأثر الخوف والتوجّس من خطوةٍ اندفاعيّة في التقديرات أو تصعيدٍ متعمّد بين حزب الله وإسرائيل المتقاتلين، بالاهتمام الدبلوماسيّ للأطراف الإقليميّة والدوليّة المنخرطة في جهود التهدئة والتفاوض.. بينما أسفرت الهجمات التصعيديّة المتبادلة عبر الحدود بين الطرفين (ردّ حزب الله و"الضربة الوقائيّة")، يوم الأحد الفائت، 25 من آب الجاري، إلى ادعاء كل جانب بالنجاح "حتّى اللحظة"؛ ما أدّى إلى استبعاد سيناريو حربٍ شاملة على قاعدة التصعيد لخفض التصعيد (escalation as de-escalation)، أقلّه على المدى القريب. مع ذلك، تبقى مخاطر هذا السّيناريو واردة تبعًا للحسابات المركّبة للردع المتبادل، فضلًا عن حسابات إيران للتصعيد، وارتباط مصير المنطقة بأسرها بمؤدى المحادثات الراميّة إلى هدنة وتسويّة دائمة، والّتي لا تزال بعيدة المنال.
العودة إلى "قواعد الاشتباك"؟
وبينما تضيق فسحة التكهن ثمّ تتسع لتضيق مُكرّرًا على وقع المواجهات عند الحدود اللّبنانيّة، يبدو جليًّا أن الحزب وفي أعقاب ردّه على اغتيال إسرائيل، لأحد أبرز قيادييه فؤاد شكر، حريص كل الحرص على العودة إلى "قواعد الاشتباك" وضربات الإسناد الّتي كُرست في الثامن من تشرين الأوّل. وكان هذا واضحًا من خطاب أمين عام حزب الله حسن نصرالله، الذي ألقاه بعد الردّ، حيث دعا فيه السكّان الذين غادروا منازلهم خوفًا من التصعيد، إلى العودة. في وقتٍ تواصل فيه إسرائيل عملياتها العسكريّة في قطاع غزّة، بل وتوسيعها إلى الضفة الغربيّة، الّتي أصبحت –وفق ما يرى مراقبون– أولويّة عسكريّة لحكومة نتنياهو، تتقدم على الحرب مع لبنان وتحديدًا الحزب. مع فشل الوساطات الدبلوماسيّة للفصل بين الجبهتين (جنوب لبنان وغزّة).
وفي وقتٍ يبدو أنّ الطرفين لا يستبعدان إمكانية حدوث مزيد من الاشتباكات، أبديا مع ذلك رغبة في التهدئة، حيث أشار نصرالله في خطاب يوم 26 آب إلى أن لبنان يمكنه "تنفس الصعداء"، وأعادت إسرائيل فتح مطارها بعد إغلاقه لفترة وجيزة عقب التصعيد العسكريّ. والحال، أن هذا الواقع الميدانيّ أعاد طرح إمكانيّة عودة ستاتيكو "حرب الاستنزاف" طويلة الأمد بين حزب الله وإسرائيل (لتأسيس الردع، وحفظ "ماء الوجه"، والإجابة على الجمهور الداخليّ)، إلى الواجهة، لحين التوصل إلى تسويّة، أو حصول ردّ إيرانيّ على اغتيال اسماعيل هنية، قد يشعل حرباً.
فكيف يُمكن قراءة المزاجين اللّبنانيّ والإسرائيليّ –سياسيًّا وشعبيًّا– بعد تصعيد الأحد الفائت، وإزاء هذا الستاتيكو؟
ارتياح في السّياسة اللّبنانيّة
بعد تنفيذ الحزب لما أسماه بـ"عملية الأربعين"، والّتي قام بها بعد جولاتٍ عدّة من المفاوضات والجهود المبذولة (وتحديدًا الّتي قادتها الإدارة الأميركيّة) في الكواليس، لاحتواء الردّ ضمن أُطر تمنع انزلاق التصعيد إلى حربٍ شاملة.. تجنب لبنان تصعيدًا كبيرًا. وقد أشار نصرالله بالفعل إلى رغبةٍ في قواعد اشتباك مقيدة نسبيًّا وردّ فقط في حالات الانتقام، من خلال توجيه الانتباه في خطابه إلى الطابع العسكريّ وغير المدنيّ للأهداف، كنوعٍ من الانتقام المتوازي لاستهداف شكر. لكن فعليًّا حتّى اللحظة لا ضمانات حقيقيّة، حيث أن الجبهة الجنوبيّة لا تزال مفتوحة، والحزب يرفض وقف العمليات من دون التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزّة. كل هذا في وقتٍ يُعاني فيه لبنان من أزماته السّياسيّة والدستوريّة (الشغور الرئاسيّ) والاقتصاديّة والاجتماعيّة، المتناسلة والمستفحلة، فيما يُفاقم واقع نزوح ما يربو عن 100 ألف مواطن من مساكنهم في الجنوب، وغياب خطط طوارئ رسميّة للإغاثة والخدمة الاجتماعيّة، هذا الوضع.
إلّا أنّه وبالرغم من ذلك، فإن جوًّا من الارتياح التدريجيّ بات ينسحب على المزاج اللّبنانيّ العامّ (المتمسك بالتضامن مع غزّة ولكن الرافض إجمالًا للانجرار في صراعٍ إقليميّ). وذلك بعودة شطر من النازحين إلى منازلهم بُعيد خطبة نصرالله الأخيرة، فضلًا عن نجاح لبنان في تمرير قرار التمديد لقوات الطورائ الدوليّة العاملة في الجنوب "اليونيفيل"، ومن دون تعديلات، رغم العقبات الّتي كانت مطروحة (راجع "المدن")، وتمسك السّاسة اللّبنانيين بوعودهم أمام المجتمع الدوليّ بإرساء ضمانات للالتزام بالقرار الأمميّ رقم 1701 (راجع "المدن")، والانطلاق في وضع مداميك مؤسسة لاستراتيجيّة لبنانيّة للدفاع.
سكّان "الشمال" ما بعد الرّد
في المقابل، تبرز المزيد من التعقيدات في المقلب الآخر للحدود اللّبنانيّة، فجوّ الارتياح اللّبنانيّ، لم ينسحب على سكّان المستوطنات الشماليّة –حيث تم إجلاء أكثر من 60,000 شخص منذ بدء المواجهات بين حزب الله وإسرائيل في الثامن من تشرين الأول– ففي الأيام الأخيرة، تزايد استياء سكان "الشمال" وممثليهم، متهمين الحكومة بإهمال مخاوفهم. ومؤكدين أنّها لا تتخذ إجراءات وقائيّة ضدّ حزب الله إلا عندما تتعرض المنطقة الوسطى من البلاد للخطر. وبعد ساعات من هجوم حزب الله، أعلن قادة ثلاثة مجالس إقليمية شمالية قطع كافة الاتصالات مع الحكومة، إلى أن يتم تقديم خطة شاملة لعودة السكان إلى منازلهم بأمان. في بيان مشترك، قالوا: "من الآن فصاعدًا، جميع الموظفين الحكوميين ليسوا من اهتماماتنا. لا تتصلوا، لا تأتوا، لا ترسلوا رسائل. لقد تمكنّا من تدبير أمورنا بأنفسنا حتى الآن".
ورغم تلميحات الحكومة منذ أشهر حول إمكانية عودة السكان إلى منازلهم مع بداية الفصل الدراسيّ، إلا أن معظمهم لا يزالون يعيشون في الفنادق أو الكيبوتسات أو مساكن مؤقتة أخرى، بينما عاد البعض إلى منازلهم رغم المخاطر. ورغم المحاولات لتهدئة الغضب الداخليّ، الّتي يقودها نتنياهو، تبدو التصريحات غير كافية لتهدئة سكان "الشمال"، الذين يطالبون بعملية عسكريّة واسعة لتحييد تهديد حزب الله ودفعه شمال نهر الليطاني، وفقًا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 لعام 2006. فمن وجهة نظرهم، قد تساعد هذه الخطوة في منع تكرار سيناريو مشابه لـ7 تشرين الأوّل الذي لا يزال يؤرق سكان الحدود.
السّخونة عند مقلبيْ الحدود
أما الواضح، أنّه وبالرغم من أجواء الارتياح اللّبنانيّ النسبيّة، فإن أزمة العودة إلى المدارس وعودة السكّان إلى منازلهم تبقى عاملًا مؤرقًا للبنان الرسميّ والشعبيّ، كما هو الحال عند سكّان المستوطنات الشماليّة، حيث لا يزال 60 ألف إسرائيليّ نازحين من الشمال، ولن تفتح المدارس في الخريف بسبب تهديد حزب الله، وهناك رغبة بين الجمهور لمواجهة الخطر الذي يشكله حزب الله، حتى في ظل التردد حول ما إذا كانت الطريقة الأكثر فعالية لتحييد الخطر هي الحرب بدلًا من الدبلوماسيّة التي تقودها الولايات المتحدة..
وبالتالي، وعلى أرض هذا الاستعصاء، تُمثل العقدة الحدوديّة المستجدّة بعد 11 شهرًا على المواجهات وتحديدًا بما يتعلق بـ"المطلب الإسرائيليّ" الذي ينعكس بصورة جليّة في الضمانات الّتي تسعى إسرائيل للحصول عليها (لتوفير "أمن سكّان المستوطنات الشماليّة")، في المفاوضات الحاليّة، فضلًا عند محاولة استجلاب الدعم للعمليات العسكريّة ضدّ لبنان، مستقبلًا. خصوصًا بعدما بات العمق اللّبنانيّ وتحديدًا البقاع جزءًا من الجبهة –بإعلان نصرالله عن إطلاق مسيّرات من البقاع– بما يتجاوز مندرجات القرار 1701، حيث يقع نطاق القرار وحسب على جنوب نهر اللّيطاني.
مرحلة جديدة، قد تكون الفيصل في السّيناريوهات المحتملة وتبقي الجبهة مفتوحة على خياراتٍ عدّة، بين التهدئة المتبوعة بتسويّة شاملة، أو الانفجار الكبير..