رافعات مرفأ بيروت "أنقذت" البلد.. والإهراءات قنبلة موقوتة
اختَصَرَ مرفأ بيروت كل لبنان. إذ جرى تفجيره بالإهمال والإغفال والتواطؤ والسمسرات. وهي تماماً الأسباب الرئيسية لتفجير البلد اقتصادياً واجتماعياً. ومع أن المرفأ استعاد سريعاً جزءاً أساسياً من مقوّمات نشاطه بفعل عدم تضرُّر رافعات محطّة الحاويات بشكل كامل، لكن قطعاً كثيرة من الصورة العامة للمرفأ بقيت ضائعة. فكيف يمكن توصيف المشهد الاقتصادي للمرفأ بعد 4 سنوات على جريمة تفجيره؟
استعادة الحركة في المرفأ
وفق حجم الأضرار التي اتّضحت بُعَيدَ انكشاف صورة التفجير في 4 آب 2020، لم يكن من السهل التسليم بقدرة المرفأ على استقبال السفن وإفراغ الحاويات منها. لكن نجاة 3 رافعات من أصل 16 رافعة، سمح بتحميل واستقبال المستوعبات، أي بالحفاظ على جرعة تفاؤل باستعادة عمل المرفأ.
الرافعات الثلاث "أنقذت البلد"، حسب تعبير الرئيس السابق للغرفة الدولية للملاحة في بيروت والنائب الأول لرئيس الاتحاد العربي لغرف الملاحة البحرية، إيلي زخور. ووفق ما يقوله في حديث لـ"المدن"، فإن عملية الإنقاذ أتت بفعل سماح الرافعات السليمة بـ"تشغيل محطة الحاويات ووصول السفن إلى المرفأ. فلو كانت كل الرافعات متضرّرة، فما كان بالإمكان استقبال السفن وتفريغ حاوياتها". وهذا ما عزَّزَ توفير البضائع للسوق، سيّما المواد الغذائية.
مع ذلك، بقيت حالة المرفأ "يرثى لها" إذ أن الأموال لم تكن متوفِّرة لإجراء أعمال الصيانة وإصلاح ما تضرَّر بفعل التفجير. "فشركة BCTC التي كانت تشغِّل محطة الحاويات، لم تكن تستطيع سحب أموالها من المصارف، وإيرادات المرفأ بقيت محجوزة بفعل الادعاء على إدارة المرفأ في أعقاب التحقيقات".
ويكشف زخّور أن "الوكلاء البحريين ساهموا بتأمين أموال للشركة لإجراء الصيانة. ومع الوقت تم تلزيم شركة CMA CGM الفرنسية (في العام 2022 ولمدة عشرة سنوات)، وهي شركة عالمية رائدة ولديها إمكانات مادية لتشغيل المرفأ وهذا ما عزّز قدرته". لكن يأسف زخّور إلى أن استعادة المرفأ لنشاطه، لم يُستَكمَل بجذب الشركات والمستثمرين بسبب الأزمة الاقتصادية والمخاوف الأمنية، وآخرها الحرب التي المستمرة منذ تشرين الأول 2023.
أسعار تشجيعية
من جهة ثانية، ورغم غياب المستثمرين، ساعدت الأزمة الاقتصادية والأمنية بتنشيط حركة المرفأ عبر زيادة معدّلات الاستيراد. والتُمِسَ ذلك من خلال زيادة حركة الحاويات وحجم البضائع المستوردة. وتبيِّن آخر الأرقام التي تقارن بين شهريّ نيسان وأيار الماضيين، ارتفاع "الوزن الإجمالي للبضائع المستورَدة والمصدِّرة من 362 ألف طن إلى 541 ألف طن، أي بزيادة قدرها 179 ألف طن ونسبتها 49 بالمئة". ويقول زخّور أن "حركة الحاويات ارتفعت بنسبة 48 بالمئة. أما حركة الحاويات المستورَدة برسم الاستهلاك المحلي فزادت بنسبة 70 بالمئة".
أيضاً، استبق التجّار المزيد من الارتفاع في كلفة النقل عبر البحر الأحمر، فزادوا حجم استيرادهم. فضلاً عن أن الاستيراد يزيد في فصل الصيف لتأمين ارتفاع الطلب على السلع خلال الموسم السياحي الصيفي. أما الحرب، فساعدت على زيادة حجم استيراد لتخزينها استباقاً للتصعيد الأمني".
ولا ينفي زخّور أن المرفأ لعب لعقود دوراً كبيراً انعكس على المنطقة ككلّ، وذلك عن طريق حركة المسافَنة، إذ استقبل سفناً متّجهة نحو سوريا وتركيا وغيرها. ومع تراجع هذا الحركة بعد تفجير المرفأ والأزمة الاقتصادية، بادَرَت إدارة المرفأ إلى تقديم أسعار تشجيعية لحركة المسافنة، لكن الوضع العام في المنطقة مخيف، ما يؤثِّر سلباً على حركة المرفأ".
الإهراءات وحبوبها قنبلة موقوتة
يؤكّد تقرير شركة "خطيب وعَلمي" للهندسة أن إهراءات القمح والحبوب في المرفأ باتت غير صالحة للاستعمال بفعل التدمير الذي أصابها، وينصَح بهدمها. وبالفعل، قرَّرَ مجلس الوزراء في العام 2021 هدم الإهراءات، لكن الهدم لم يحصل لعدّة أسباب، منها عدم توفّر أموال الكلفة التي لا تقل عن 10 ملايين دولار، وعدم موافقة أهالي ضحايا تفجير المرفأ على الهدم، انطلاقاً من أن الإهراءات المتضرِّرة تشكِّل شاهداً على جريمة التفجير التي لم تُحَدَّد الجهات المسؤولة عنه ولم يتم محاسبة أحد.
لعبت الإهراءات لحظة تفجير الرابع من آب دوراً في حماية قسم من العاصمة من عصف تفجير نيترات الأمونيوم التي كانت مخزّنة في العنبر رقم 12 بجانب الإهراءات. وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي، كان القمح المُخَزَّن هناك، سبباً في ضمان الأمن الغذائي الذي بات الحفاظ عليه اليوم في ظل خروج الإهراءات من الخدمة، أمراً مكلفاً. فإثر انهيار سعر صرف الليرة وتفاقم الأزمة الاقتصادية، لم تعد إيرادات الدولة تكفي لدعم استيراد القمح بالكميات المطلوبة أو تأمين احتياط استراتيجي في الإهراءات، فشهدت البلاد موجة من عدم الاستقرار في تأمين القمح وتالياً الطحين والخبز. واليوم يتم تمويل تأمين القمح عبر قرض من البنك الدولي، وتوزَّع الكميات على مخازن المطاحن لعدم نوفُّر مكان خاص للدولة.
وعليه "لا مخزون استراتيجياً من القمح ولا قدرة للمطاحن على تخزين الكثير. ولو أن الإهراءات لم تتضرَّر، لكان بالإمكان تأمين مخزون استراتيجي من القمح يكفي على الأقل لثلاثة أشهر"، وفق ما يقوله مدير إهراءات مرفأ بيروت أسعد حداد، الذي يشير في حديث لـ"المدن"، إلى أن "الدولة خسرت مكاناً للتخزين يتّسع لـ120 ألف طن من الحبوب".
وكما حمت الإهراءات بيروت ولبنان، تشكِّل في المقلب الآخر قنبلة موقوتة. فالقمح والحبوب التي كانت موجودة وقت التفجير "أصابها العفن والفطريات على مدى 4 سنوات، وهي تنتشر في الهواء وتؤذي الناس. ولذلك يجب معالجة الوضع بسرعة، لأن بقاء الإهراءات على ما هي عليه اليوم تنذر بضرر وخطر كبيرين". والحل بالنسبة إلى حداد، مسارعة بناء إهراءات جديدة "في بيروت وطرابلس". وفي ظل الأزمة الاقتصادية فإن "عدم بناء إهراءات يعني بقاء الخوف من انعدام الأمن الغذائي". ويستبعد حداد تلزيم عملية بناء إهراءات جديدة في المستقبل القريب بسبب "عدم إقبال المستثمرين في الظروف الحالية من دون وجود إصلاحات".
الخردة لا زالت تنتظر
من المعوّقات التي تصعِّب الاستفادة من كامل مساحة المرفأ، هو استمرار وجود الخردة الناتجة عن التفجير. فهناك نحو 28 ألف طن من الحديد لا تزال في المرفأ، مع أن مزايدة علنية أطلقت في أيلول 2023 ورست على تحالف شركتي كونكورد ـ سلطان، بقيمة 245 دولاراً للطن تُدفَع للدولة. ويشير زخّور إلى أن "الإزالة تحتاج حالياً إلى إنجاز معاملات إدارية قبل البدء بالتنفيذ. ومن المفترض نقل الكميات إلى معامل الحديد في تركيا ومصر". وإلى جانب خردة الحديد "هناك نحو 1100 سيارة تحوّلت إلى خردة بعد أن قضى عليها التفجير".
الصورة الراهنة للمرفأ "جيّدة، لكن يجب أن تكون أفضل"، برأي زخّور. والإيجابية التي يقدّمها المرفأ، تظهر أيضاً من خلال تسجيله إيرادات "وصلت إلى نحو 150 مليون دولار في العام الماضي، مقارنة بنحو 182 مليار ليرة في العام 2020"، وكانت تساوي قيمتها وفق المدير العام لمرفأ عمر عيتاني "نحو 9 ملايين دولار". ومن المتوقَّع أن يتحسَّن الوضع بعد انتهاء الحرب المستمرة منذ تشرين الأول 2023، سيّما وأنه تم وضع مخطّط إعادة إعمار المرفأ، في آذار الماضي، ومن المنتظر استعمال إيرادات المرفأ لتغطية الكلفة التي ستتراوح بين 60 و160 مليون دولار، بحسب ما أعلنه رئيس الوزراء نجيب ميقاتي.