ضربة "مزدوجة" قاسية... ماذا بعد هجوم الضاحية واغتيال هنية؟!
صحيح أنّ العالم كلّه كان ينتظر هجومًا إسرائيليًا توعّدت به تل أبيب منذ حادثة مجدل شمس يوم السبت الماضي، لكنّ كلّ التقديرات كانت تشير إلى أنّ الضربة ستكون "محدودة"، حتى إنّ بعض المسؤولين بالغوا في الحديث عن "تطمينات" بأنّ الهجوم لن يكون أكثر من "ردّ اعتبار"، لتأتي المفاجأة "مزدوجة"، بدءًا من الهجوم الدمويّ على الضاحية الجنوبية لبيروت، وصولاً إلى الإعلان الصادم عن اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران.
ففي وقتٍ كانت الأنظار متّجهة بقاعًا وجنوبًا، ترقّبًا لضربة إسرائيلية وُضِعت في خانة "الرد" على حادثة مجدل شمس رغم أنّ "حزب الله" تنصّل منها ونفى علاقته بها منذ اللحظة الأولى، جاءت الضربة أبعد ما تكون عن "المحدودة"، سواء في الشكل، مع ضرب عمق الضاحية الجنوبية لبيروت، في ساحة مكتظّة، ما أسفر عن سقوط عدد من المدنيين، أو حتى في المضمون، مع استهداف أحد أهمّ المسؤولين العسكريين في "حزب الله"، فؤاد شكر.
وقبل أن يُكشَف عن مصير الرجل، الذي تضاربت الأنباء بشأن نجاته من عدمها، إلى أن أكد "حزب الله" أنه كان موجودًا في المبنى الذي تمّ استهدافه، جاءت "صدمة" اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" في طهران تحديدًا، لتشكّل نقطة تحوّل في مسار المواجهة المستمرّة منذ عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول، ولا سيما أنّها صُنّفت "إنجازًا" في موازين إسرائيل، حتى لو لم تعلن مسؤوليتها عنها بشكل صريح ومباشر.
وبين هجوم الضاحية واغتيال هنية، تُطرَح علامات استفهام بالجملة عن التبعات والتداعيات في المرحلة المقبلة، فكيف يقرأ "محور المقاومة" التصعيد الإسرائيلي الذي يكاد يكون غير مسبوق على كلّ المستويات، وكيف سيتعامل معه في القادم من الأيام؟ هل يمكن القول إنّ "الحرب الشاملة" أصبحت محتّمة، بعيدًا عن "ثابتة" أنّ الطرفين لا يريدانها ولا يحبّذانها، أم أن ما حصل يمكن أن يكون "بداية نهاية" الحرب المتواصلة منذ عشرة أشهر؟!.
بالنسبة إلى الهجوم على الضاحية الجنوبية، يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله" إنه لا يمكن التعاطي معه سوى بوصفه "عدوانًا إسرائيليًا كاملاً" على السيادة اللبنانية، علمًا أنّ صفات "الضربة المحدودة" التي كثر الحديث عنها لا تنطبق عليه، وهو انطلاقًا من ذلك ينطوي على لعب بالنار وتجاوز للخطوط الحمراء، لا يمكن للحزب أن يسكت عليه، حتى لو لم يكن راغبًا بالانجرار إلى "فخّ" استدراج إسرائيل للحرب.
في هذا السياق، يشرح العارفون أنّ "خطورة" الاعتداء على الضاحية الجنوبية تبدأ من الشكل، حيث إنّ "الذريعة" التي انطلق منها الجانب الإسرائيلي لتبرير الهجوم واهية، فهو شرّع لنفسه ضرب لبنان وفق قاعدة أنّ "حزب الله" هو المسؤول عن حادثة مجدل شمس، الأمر الذي كان الحزب قد نفاه بشكل قاطع، وأكّده بالأدلة العلمية، فضلاً عن أن أهالي مجدل شمس أنفسهم رفضوا استخدام دم أبنائهم لإراقة المزيد من الدماء في لبنان أو غيره.
وفي الشكل أيضًا، تتجلّى الخطورة بحجم الاعتداء، الذي لا يُعَدّ محدودًا، وقد طال عمق الضاحية الجنوبية، في مكانٍ مكتظّ، وفي وقتٍ مبكر، فضلاً عن أنّ "الفاتورة" التي نجمت عنه "ثقيلة"، وفي صفوف المدنيين بالدرجة الأولى، علمًا أنّ المفارقة المثيرة للجدل هنا تمثّلت في أنّ الجانب الإسرائيلي ادّعى أنّ "ضربته" تأتي انتقامًا لدماء الأطفال في مجدل شمس، فإذا به على طريق "الثأر المزعوم" لهؤلاء، يقتل أطفالاً كانوا آمنين في زيارة عائلية.
وأبعد من ذلك، يؤكد العارفون أنّ "خطورة" الاستهداف تكمن أيضًا في نوعيّته، وتحديدًا في طبيعة الشخصية المُستهدَفة، التي وصفها "حزب الله" بـ"القائد الجهادي الكبير"، فحتى لو كان صحيحًا أنّ الحزب يعتبر كلّ دماء مقاتليه وقادته سواسية، إلا أنّه لا يضع اغتيال قائد بهذا الحجم بموازاة سائر الاغتيالات الميدانية التي دأب الإسرائيلي على تنفيذها منذ "طوفان الأقصى" وحتى اليوم، لما تنطوي عليه الجريمة من رسائل قد ترقى لمستوى "إعلان الحرب".
لكلّ هذه الأسباب والاعتبارات، يقول العارفون إنّ "حزب الله" يتعامل مع ضرب الضاحية الجنوبية لبيروت، واستهداف فؤاد شكر تحديدًا، باعتباره نقطة تحوّل يأخذ المعركة إلى أبعاد جديدة، مختلفة عن كلّ ما سبق منذ الثامن من تشرين الأول، ولا سيما أنّ ما حصل نقل المواجهة من مرحلة "الإسناد لغزة" التي كانت عنوان المعركة بالنسبة للحزب، إلى مرحلة التصدّي لعدوان إسرائيلي مباشر على لبنان، وهنا تكمن النقطة الفارقة تحديدًا.
عمومًا، وبمعزل عن الرسائل "النارية" التي حملها هجوم الضاحية الجنوبية، وبعده اغتيال هنية الخطير بأبعاده، يقول العارفون إنّ سيناريوهات ما بعده لا تبدو محتّمة، بل قد تكون متناقضة، إذ ثمّة من يعتبر أنّ إسرائيل فتحت بضربتها المزدوجة هذه باب الحرب الشاملة على مصراعيه، بعدما وضعت المحور في وضع "حَرِج"، في مقابل من يرى أنّ هذه الضربة، بمعزل عن الردّ المحتمل عليها، قد تمهّد لمفاوضات جدية وحقيقية لإنهاء الحرب.
الأكيد حتى الآن، وفق ما يقول العارفون، إنّ ما جرى في الساعات الأخيرة ينذر بالمزيد من "الجنون" بمعزل عن كلّ الاتصالات التي قد تنشط للتهدئة، فأن تقدم إسرائيل على استهداف من صُنّف "المسؤول العسكري الأول" في "حزب الله"، ثمّ تُقدِم في الليلة نفسها على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" في العاصمة الإيرانية، ليس أمرًا عبثيًا أو عابرًا، ومن الصعب الاعتقاد أنّه يمكن أن يمرّ مرور الكرام من دون أيّ تبعات أو تداعيات.
وإذا كان هناك من رأى في الموضوع "استدعاء للحرب" من قبل الجانب الإسرائيلي، بعيدًا عن الرهانات على فرضية "الصبر الاستراتيجي"، أو النوم على حرير رفض المحور الآخر للحرب، فإنّ هناك من ذهب أبعد من ذلك، بالإشارة إلى أنّ إسرائيل توجّه رسالة "استفزاز" لهذا المحور أيضًا في سياق جرّه ربما للحرب، باعتبار أنّها عمليًا من طبّقت نظرية "وحدة الساحات" التي لطالما لوّحت بها إيران، من دون أن تدُخِلها حيّز التنفيذ بشكل فعليّ على الأرض.
لا يعني ما تقدّم أنّ الحرب الشاملة أصبحت مضمونة، فالأمور تبقى مرهونة وفق العارفين، بطبيعة الردود المنتظرة من جانب "حزب الله" وإيران، وهي ردود قد لا تكون فورية، مع ترجيح أن يبقى الأساس فيها أن تكون "دون سقف الحرب"، ولو أنّ كلّ التقديرات تشير إلى أنّ المواجهة ستتصاعد، أيًا كان شكل وحجم هذه الردود، ولا سيما أنّ عدم الرد لم يعد خيارًا عمليًا، حتى لو كان الإسرائيلي راغبًا بأن تكون عملياته مقدّمة للتفاوض على وقف إطلاق النار.
في النتيجة، لا شكّ أنّ ما جرى في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي العاصمة إيران يشكّل نقطة تحول في مسار المواجهة، ولا شكّ أنّه يرقى برأي كثيرين لمستوى "إعلان الحرب" بكلّ ما للكلمة من معنى. لكن لا شكّ أيضًا أنّه يترك السيناريوهات "مفتوحة" بالنسبة للمرحلة المقبلة، مرحلة يبدو أنّها ستشهد المزيد من التصعيد، من دون أن يُحسَم ما إذا كان تصعيد ما قبل الحرب الكبرى، أو ما قبل التسوية التي طال انتظارها!.