مَن يسابق مَن في نسف جسور الحوار؟
لم تكن قوى "المعارضة" تنتظر هدية كتلك، التي أهدتها إياها قوى "الممانعة"، وبالتحديد "الثنائي الشيعي" عندما رفضا عقد لقاء من وفد يمثّل هذه "المعارضة"، فازدادت هذه القوى قناعة بعدم جدوى أي حوار تُفرض فيه شروط من يعتبر نفسه أن من حقّه أن يقرّش "انتصارات الميدان" في "الميدان الرئاسي" عبر إقناع الآخرين بأن ترشيح رئيس تيار "المردة" الوزير السابق سليمان فرنجية هو آخر فرصة قبل الانتقال إلى مرحلة قد تكون خياراتها غير مناسبة مع ما يتوافق مع الشعارات غير الواقعية، التي تُطلق بين الحين والآخر، أو بمعنى آخر قد تكون تمهيدًا لخيارات متبادلة لن تلقى اجماعًا لبنانيًا لا يزال يرفض أي طرح غير وحدوي من خلال "وحدة الساحات"، أو من خلال ما يتمّ الترويج له في المقابل عن "طلاق بالحلال".
هذا الجو غير المطمئن عمّا ينتظر لبنان من تطورات قد تكون مفاجئة في الميدان الجنوبي بعد التهديدات، التي أطلقها رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو من واشنطن، أو في الميدان السياسي بعدما نسف "الثنائي الشيعي" إمكانية التفاهم مع الفريق الآخر، والذي يتهمه بأنه لا يزال يراهن على تغييرات إقليمية عبر البوابة الجنوبية قد تعيد التوازن إلى الساحة الداخلية بعدما أصبح "حزب الله"، الذي يحارب اليوم إسرائيل، والذي حقّق انتصارات في سوريا، يوازي بقوته الميدانية قوة أقوى الدول الإقليمية من خلال ما لديه من "فائض قوة" قد لا تصبّ في خانة الخيارات الداخلية، خصوصًا إذا أسيئ استخدامها لفرض شروط معينة مرفوضة من قِبل الآخرين سلفًا حتى ولو كان ثمن هذا الرفض الوصول إلى نقطة اللاعودة في الخيارات الوطنية.
ويُلَاحظ في هذا المجال أن في أفواه بعض القوى، التي تضطر لاتخاذ مواقف مغايرة لقناعاتها ومبادئها، الكثير من المياه، وهي تجد نفسها مسيّرة وغير مخيّرة في السير بركب لا يشبه كثيرًا البيئة السياسية، التي كان يُعبّر بها بطريقة مغايرة. وهذا ما يدفع إلى التساؤل عمّا سيؤول إليه الوضع الرمادي، الذي يميل مع مرور الوقت إلى السواد القاتم أكثر فأكثر من أي وقت مضى، حتى أن بعض الذين كانوا يُعتبرون من المتفائلين الأكثر إشراقًا من غيرهم قد أصبحوا أقرب إلى المتشائمين.
فلا شيء في رأي هؤلاء على أرض الواقع يدعو إلى التفاؤل، إذ أن المشاكل والأزمات التي تتكدّس فوق رؤوس المواطنين تخطّت معدّل قدرتهم على الاحتمال، خصوصًا في المجالين الطبي والاستشفائي والتربوي. فأي مريض لا يملك ثمن الدواء أو لا تسمح له إمكاناته المادية بالدخول إلى المستشفى محكوم عليه بمصير معلوم ومجهول في آن، ناهيك عن أقساط المدارس، التي تضاعفت عمّا كانت عليه في السنوات الماضية، مع غياب شبه كلي للجدوى الاقتصادية لأي خطة اقتصادية وانمائية.
وتُضاف إلى كل هذه الأزمات المتراكمة، التي أصبحت جزءًا من حياة اللبنانيين، المشاكل والتعقيدات السياسية والاختلافات الجذرية بين فريقي الطبقة السياسية، التي أدّت في السابق إلى شغور رئاسي استمرّ سنتين ونصف السنة، وإلى فراغ حالي على كل المستويات من أعلى الهرم حتى أسفله، مع استمرار تعطيل الجلسات الانتخابية وتعطيل الحياة السياسية، ودفع الناس إلى المزيد من اليأس وطلب الهجرة، وبالأخصّ الفئة الشبابية منهم، التي لا تجد أي فرصة لأي نوع من العمل في ظل انسداد الأفق في نفق مظلم طويل يبدو أن لا نهاية له، إذ لا تلوح أي بوادر انفراج على كل المستويات وفي كل الاتجاهات، بل أن الأخبار المتداولة عن التصعيد المتدرج في الجنوب ينذر بأن الانفجار الكبير يسابق أي انفراج أمني أو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي. وهذا ما يتخوف منه الذين يهمّهم أن يبقى لبنان في منأى عن الصراعات الخارجية، وأن يعمّ الاستقرار السياسي والأمني فيه. ويأتي على رأس هؤلاء المتخوفين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي يعتبر أن انفلات الوضع في جنوب لبنان إلى ما لا تُحمد عقباه سيؤدّي حتمًا إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة ككل، وبالتالي فإن السلام العالمي يدخل منطقة الخطر الشديد مما ينذر بأوخم العواقب.