كهرباء لبنان: تفاصيل غير مُكتَشَفة في ملفّ الفيول العراقي
على ندرتها اليومية، تغيب ساعات الكهرباء كلياً منذ نحو 3 أيام، بسبب تأخُّر تفريغ شحنات الغاز أويل المستَبدَل من الفيول العراقي، حسب الاتفاقية الموقَّعة بين لبنان والعراق في العام 2021. والتأخُّر يعود إلى "الإشكالية المالية ما بين مصرف لبنان، الحكومة اللبنانية، والحكومة العراقية"، وفق بيان لمؤسسة كهرباء لبنان. (راجع المدن).
وفي توضيح مقتضَب للإشكالية، تشير مصادر في المؤسسة خلال حديث لـ"المدن"، إلى أن "المشكلة لبنانية وتبدأ عند مصرف لبنان الذي لم يحوِّل الأموال في حساب مؤسسة الكهرباء من الليرة إلى الدولار، لدفعها للحكومة العراقية". علماً أن الدفع يتم بواسطة حساب خاص في مصرف لبنان، تحرّكه الحكومة العراقية، ويُفتَرَض أن تذهب تلك الأموال لتغطية نفقات يستفيد منها العراق كدولة والعراقيون في لبنان، على شكل سلع وخدمات.
لكن تسود هذا الملف تفاصيل غامضة، تحرص الجهات الرسمية اللبنانية على إبقائها كذلك، كي لا تجرّ خلفها فضائح إضافية في ملفّ الكهرباء. والنتيجة، هي البقاء في العتمة. فما هي التفاصيل غير المكتشفة بعد؟
أزمة مالية مستمرة
انطلقت عملية الاتفاق مع العراق من واقع عدم قدرة لبنان على تأمين السيولة المالية الكافية لسداد كلفة الفيول الذي سيُستَبدَل بفئات مختلفة من الوقود، أي الفيول Grade A والفيول Grade B والغاز أويل. ولذلك، قدَّمَ العراق تسهيلات منها تأجيل استحقاق الدفع لمدة عام واستخدام الأموال لتغطية كلفة خدمات في لبنان. لكن عدم انتظام المسار المالي المرتبط بمؤسسة كهرباء لبنان وتحت رعاية وزارة الطاقة، فضلاً عن التساؤلات المتعلّقة بالفساد المتواصل في لبنان، تحديداً منذ تسارع الانهيار الاقتصادي في العام 2019، بالإضافة إلى عدم رغبة المعنيين بقطاع الطاقة إحداث تغييرات إيجابية في القطاع، سيّما بعد تحديد صندوق النقد الدولي ضرورة إجراء إصلاحات في قطاع الطاقة، وقبل ذلك إصرار المجتمع العربي والدولي على الإصلاحات كشرط أساسي للحصول على تمويل مؤتمر سيدر في العام 2018... كل ذلك أدّى إلى شكوك من الجانب العراقي حول رغبة وقدرة لبنان على سداد مستحقات الفيول. ومع ذلك لم يقطع العراق خط سير الاتفاق، لكن الحَذَرَ أصبَحَ واقعاً.
وعندما ترتفع مستويات الحذر والشكوك، يسارع لبنان إلى التماس الصفح من الجانب العراقي، عبر وعود متواصلة بتحسين الأداء وضمان انتظام الدفع. ليعاود العراق تسيير الملف الذي يعتبره بمثابة هبة للبنان. وللتقليل من شأن وقف تفريغ شحنات الغاز أويل بفعل الإشكالية المالية، أكّد وزير الطاقة وليد فيّاض، في حديث تلفزيوني بأنه "تدخَّلَ لدى العراقيين للقيام بعمل استثناء بينما يقوم مجلس النواب اللبناني وحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري باستكمال النهج للسماح بنقل المستحقات العراقية إلى الحساب العراقي في مصرف لبنان". ومن المتوقَّع، حسب فيّاض، أن يبدأ تحميل شحنة نفط جديدة من العراق اليوم الثلاثاء على أبعد تقدير "ممّا يحلّ المشكلة لهذا الشهر".
لم تتلقَّ "المدن" أي إجابة من فيّاض، حتى وقت كتابة هذه السطور، رغم محاولات التواصل معه. لكن الإجابات المنتَظَرة لا تقدّم حلاً جذرياً للمعضلة، ولا تعدو كونها شرحٌ للمشهد الآني وتصوّرات الوزارة للحلّ. لأن جوهر المشكلة في مكان أعمق يصل إلى خفايا الوضع المالي لمؤسسة كهرباء لبنان وسياسات وزارة الطاقة في ملف الكهرباء والإصرار على إدارته بالطريقة عينها التي أدّت إلى هدر مليارات الدولارات، مما جعلَ مؤسسة الكهرباء في حالة مالية يرثى لها، فيما تعتمد الوزارة على سلفات الخزينة لتأمين ثمن الفيول، وهي الدوامة عينها التي يغرق فيها القطاع. أي عدم قدرة المؤسسة على تمويل حاجتها من إيراداتها المالية، ما يدفع الوزارة إلى طلب سلف الخزينة التي لا تُرَدّ، خلافاً لقانون المحاسبة العمومية.
أين أموال مؤسسة الكهرباء؟
لا يوافق المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة والخبير الحالي في المعهد اللبناني لدراسات السوق الذي أطلق خطة لتعزيز دور البلديات في معالجة أزمة الكهرباء، غسان بيضون، على أن العراقيل التي تطال ملف الفيول العراقي هي مطبّات صغيرة وعابرة. وبرأيه، يدور جوهر المشكلة حول مالية مؤسسة كهرباء لبنان واستمرار "نهج الابتزاز والتهويل بالعتمة لأخذ مكاسب ودعم غير مشروع وغير مبرَّر للكهرباء". وينطلق بيضون في حديث لـ"المدن" من السؤال عن الوضع المالي للمؤسسة بعد رفع الوزارة تعرفة الكهرباء بطريقة غير عادلة. وبرأيه "هناك خطة طوارىء أثبتت فشلها، ومشروع مقدّمي خدمات فشل في تحقيق هدفه الرئيسي وهو خفض الهدر وتحسين الفوتَرة والجباية". وانطلاقاً من الواقع، فإن ما يتم إنتاجه من الكهرباء بواسطة الفيول العراقي "يضيع منه بين 55 إلى 60 بالمئة. أي أن هذه الكمية المنتَجة، لا يتم لحظها ولا فوترتها ولا جبايتها. وبالتالي، فإن الأموال المحصَّلة من كهرباء لبنان لن تكفي لسداد قيمة الفيول المستورَد من العراق".
ولذلك، يُخرِج بيضون النقاش حول الفيول العراقي من دائرة علاقة مصرف لبنان بتسهيل دفع الأموال المطلوبة. فالمصرف المركزي "كان يتدخَّل لتأمين ثمن المحروقات من حساب خزينة الدولة، واليوم توقَّفَ عن أداء هذا الدور، وبات على مؤسسة الكهرباء تأمين الأموال من حسابها وأموالها، ووجدَ مصرف لبنان أن تلك الأموال أقل ممّا يجب أن تكون عليه لدفع التكاليف المطلوبة. ولكي تجد وزارة الطاقة حجّة مقنعة لتغطية فشل خطّتها وعدم نجاحها في الفوترة والتحصيل، قالت بأن هناك مَن يعرقِل الملف".
وبالتالي، يبدأ الحل بالنسبة إلى بيضون من "كشف التفاصيل الغامضة في مالية كهرباء لبنان وتبيان حجم الجباية وما هو موجود في حساباتها وماليّتها. ثم إعادة الانتظام إلى عملية إجراء مناقصات شراء الفيول التي من المفترض أن تتم عبر المؤسسة التي لديها نظامها المالي المستقل، وليس عبر وزارة الطاقة التي تسيطر على عملية تحضير دفاتر الشروط وعلى تخفيض المهل القانونية المتعلقة بالمناقصات وعلى قرار طلب بواخر الفيول قبل رصد ثمنها وإتمام إجراءات الدفع بطريقة قانونية... وغير ذلك". ويحمِّل بيضون المسؤوليات في هذا الملف إلى "الحكومة ورئيسها وإلى مجلس النواب واللجنة الوزارية الفرعية المكلّفة متابعة ملف الكهرباء". ويعتبر أنه وسط استمرار النهج نفسه في هذا القطاع فإن "كل تمويل لشراء المحروقات سيُهدَر منه نسب عالية لا يمكن تعويضها".
وفي السياق، ينطلق بيضون من "التساهل العراقي الذي يصل إلى حدّ اعتبار عقد الفيول هبة من العراق للبنان"، ويطرح إمكانية التفاوض مع العراق "لتحويل المستحقات المالية بالليرة إلى الجهات التي تقدّم الخدمات للعراقيين، وتستفيد تلك الجهات من المبالغ لسداد متوجّباتها بالليرة بشكل مباشر بدل تحويلها إلى الدولار. على أن يكون تحويل الأموال بالليرة وفق سعر صرف السوق، وبذلك تبقى قيمة الأموال كما هي ولا يعود هناك حاجة لشراء الدولار من السوق وزيادة الطلب عليه". (راجع المدن).
الأمور واضحة بالنسبة إلى بيضون، فهناك "إظهار لنوايا غير حسنة في هذا الملف من الجانب اللبناني، ولذلك، تبقى الشكوك العراقية موجودة. وعندما يبدي لبنان حسن النوايا، سيقدِّر العراق ذلك ويتساهل أكثر فأكثر في الموضوع المالي".