فرنسا في زمن المفاجآت: عودة دراماتيكية لليسار الجذري
أيّ مراجعة للتطورات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي شهدها العالم وبلدانه المختلفة، خلال السنوات الماضية، تؤكد أن اللايقين بات من أبرز سماته. تتكاثر "المفاجآت"، المبهجة للبعض والمفجعة للبعض الآخر، ولكن المربكة، وإنْ بدرجات متفاوتة لحسابات الجميع، والتي تزيد من تعقيد الأوضاع السياسية العامة. الانتخابات التشريعية الفرنسية، في دورتَيها الأولى والثانية، هي من بين الأمثلة العديدة على هذا الواقع المستجدّ. مفاجأة الدورة الأولى، والتي احتلّت حيّزاً مهمّاً من التحليلات والتعليقات، كانت ما بدا أنه "اقتراب اليمين الفاشي من أعتاب السلطة"؛ أمّا مفاجأة الدورة الثانية، فهي ليست تصويت غالبية نسبية من الناخبين ضدّ اليمين الفاشي، أو بحسب التعبير المتداول منذ عقود في فرنسا "بناء سدّ ضدّ الفاشية". التصويت "ضدّ" اليمين المتطرّف أصبح نوعاً من التقليد في هذا البلد، لأنه تكرَّر لعدة مرات منذ الانتخابات الرئاسية في 2002، عندما وصل مرشحه آنذاك، جان ماري لوبن، إلى دورتها الثانية في مقابل جاك شيراك، مروراً بانتخابات 2017 و2022، والتي حصد خلالها المرشح إيمانويل ماكرون أصوات المعارضين للفاشية، ولكن غير المؤيدين لبرنامجه السياسي، وأضحى بفضلها، وبفضل أصوات مؤيّديه، رئيساً للجمهورية لمرتَين على التوالي. المفاجأة اليوم هي أن التصويت المعارض للفاشية، لم يأتِ لمصلحة مرشح أو مرشحين وسطيين فقط، بل لمصلحة تكتّل يساري يحتلّ فيه المكوّن اليساري الجذري، حزب "فرنسا الأبيّة" بقيادة جان لوك ميلانشون، الموقع الأبرز. وتعني هذه المفاجأة أن المشهد السياسي الفرنسي يشهد تحوّلاً عميقاً يترجم تراجعاً في شعبية أحزاب الحكم التقليدية الممثّلة بيمين الوسط ويسار الوسط، وتنامياً في شعبية اليسار الجذري واليمين الفاشي.نتائج الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية لا تلغي حقيقة أن اليمين الفاشي تمتّع، خلال العقدَين الماضيَين، بتوسُّع تدريجي ولكن مستمرّ لقاعدته الاجتماعية لأسباب سياسية واقتصادية - اجتماعية وأيديولوجية، مرتبطة بتعاظم ظاهرة الإسلاموفوبيا وبالمتغيّرات الدولية. غير أن ما ينبغي عدم إغفاله أيضاً، هو الصعود الموازي، والمستمرّ هو الآخر، لشعبية اليسار الجذري، في أوساط ما يسمى "شعب اليسار"، أي جمهور الناخبين الذي يصوّت عادةً لأحزاب اليسار التقليدية، ونجاح هذا اليسار الجذري في اجتذاب قطاعات شبابية جديدة وشرائح معتبَرة من أبناء الضواحي والأحياء الشعبية ذات الأصول المهاجرة. ولا شكّ في أن المواقف الجريئة التي عبّر عنها حزب "فرنسا الأبيّة"، وقائده ميلانشون، المناهضة للإسلاموفوبيا وللعنصرية الممأسسة في فرنسا، وكذلك رفضه الحازم لحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ غزة ودعمه لحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، قد ساهمت في كسبه تأييداً وازناً من القطاعات والشرائح المشار إليها. وليس من قبيل المبالغة، القول إن هذه الانتخابات أَظهرت أن القضية الفلسطينية أضحت مسألة سياسية داخلية في فرنسا، وإن كتلة انتخابية لا يستهان بها تربط دعمها لأيّ قوّة سياسية، بالاستناد إلى موقفها منها.
من غير الواضح، حتى اللحظة، ما الذي سيفعله الرئيس الفرنسي بعد هذه الانتخابات. لم تتمكّن أيّ من الكتل الرئيسيّة الثلاث، أي "الجبهة الشعبية الجديدة" (يسار) و"معاً" (حزب ماكرون) و"التجمع الوطني" (اليمين الفاشي)، من الحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان، أي على 289 مقعداً من أصل 577، ونتج من الانتخابات تكوّن ثلاث كتل برلمانية متقاربة عدديّاً: 181 مقعداً لـ"الجبهة الشعبية"، و168 لـ"معاً"، و143 لـ"التجمع الوطني"، إضافة إلى 46 لحزب "الجمهوريين" اليميني، و14 مقعداً لقوى يمينية أخرى، و13 لتنظيمات يسارية صغيرة. ومن المستبعد أن يبادر ماكرون إلى تكليف أحد أقطاب "الجبهة الشعبية الجديدة"، بتشكيل حكومة، إذ أعلن قادتها أنهم غير مستعدين للدخول في حكومة ائتلافية مع حزبه وأحزاب اليمين الأخرى، وأن شرطهم الرئيسيّ لتشكيل حكومة، هو تمكينهم من تطبيق برنامجهم المشترك، المتناقض في أهمّ أهدافه مع السياسات التي اعتمدها ماكرون وفريقه منذ وصوله إلى السلطة. ومن بين تلك الأهداف، مثلاً، إعادة النظر في "إصلاح" نظام التقاعد الذي فرضه الرئيس وفريقه، وكذلك في "قانون الهجرة"، أو إقرار تجميد لأسعار السلع الأساسية ورفع مستوى الحدّ الأدنى للأجور واعتماد نظام ضريبي عادل وتصاعدي يلغي "امتيازات أصحاب المليارات". على أن وضع برنامج كهذا موضع التطبيق، يعني الشروع في تصفية "التركة الماكرونية". ولذا، قد يغامر الرئيس مجدداً بتكليف شخصية من حزبه لتشكيل حكومة، وهو يستطيع فعل هذا وفقاً للبند الثامن من الدستور الفرنسي، غير أن حكومة من النوع المذكور ستصطدم بمعارضة قسم وازن من البرلمان الجديد لقراراتها، وربّما بشروع نواب المعارضة في حجب الثقة عن وزرائها. ويعني ما تقدّم، أن فرنسا ستشهد، في حال إقدام ماكرون على مغامرة مشابهة، بعد مغامرته بحلّ البرلمان، مرحلةً من الشلل في عمل المؤسسات، ومن الاضطراب السياسي والاجتماعي، إلى أن يحين موعد الانتخابات الرئاسية في 2027.