سيطرة اقتصاد الكاش و"اللبناني شاطر وبيدبّرها" !
"اللبناني شاطر وبيدبّرها"، هي عبارة توازيها عبارات مرادفة تؤدّي المعنى نفسه، وتدلّ على أن اللبنانيّ يستطيع التكيُّف مع الظروف وتدبير أموره. وعلى مدى 5 سنوات من عمر الأزمة ذات الجوانب الاقتصادية والمالية والاجتماعية، يعيش اللبنانيون وسط اقتصاد تآكَلَ وتحوَّلَ إلى اقتصاد نقدي "الكاش"، ما أدّى إلى خلق قنواتٍ تغذّي معيشة اللبنانيين، لكنّ جوهرها ضبابيّ وتحوم حوله علامات الاستفهام. ولأن التكيُّف سمة ضرورية وملاصقة لحياة البشر عموماً، يغطّي اللبنانيون قبحَ واقعهم وعجزهم عن تغييره، بعبارات ذات وقعٍ إيجابيّ، مفادها القدرة على تسيير الأمور. فكيف يعيش هؤلاء، وهل فعلاً هناك تدبُّر حقيقي للمتطلّبات الحياتية؟، وماذا بعد؟
مصادر متعدّدة للمداخيل
مع انهيار القيمة الشرائية للعملة المحلية، فَقَدَ الموظفون في القطاع العام قدرتهم على تأمين معيشتهم، ولم تنجح محاولات السلطة السياسية، عبر المساعدات الاجتماعية للموظفين، في سدّ الفجوة بين القيمة الفعلية للرواتب وقيمة السلع في السوق. فبقي هؤلاء الموظّفون أمام ضغط معيشي لم يخفِّف حدّته قليلاً سوى تخفيض ساعات العمل والبحث عن وظائف مرادفة في القطاع الخاص أو أعمال حرّة.
بالتوازي، تصدّعت أحوال موظّفي القطاع الخاص، لكن سرعان ما تحسّنت أحوالهم مع الدولرة. رغم أن الكثير من موظّفي القطاع الخاص لا يحصلون على رواتب وأجور تتناسب مع مستويات التضخّم والغلاء.
وفي زاوية أخرى، هناك مَن يعتمد على المال الاغترابي، إما من خلال العمل المباشر خارجاً أو تحويلات المغتربين إلى لبنان. وكذلك، هناك المساعدات التي تأتي عبر الجمعيات الأهلية والدولية والأحزاب.
وتحصل حركة الأموال هذه في ظل اقتصادٍ غير سليم ودولة "تغفل عن إصلاح الواقع، بل إنها في تظاهرها بأن الأمور تتحسَّن من خلال ما تسميه بالإصلاحات، تساهم في تعزيز الأزمة وتغذية الاقتصاد غير الشرعي، وتالياً في زيادة وتيرة اعتماد الناس على مصادر ضبابية للمداخيل التي بدورها لا تطوِّر الاقتصاد"، وفق ما تقوله مصادر اقتصادية في حديث لـ"المدن".
ورغم حصول الناس على الأموال من منابع متعدّدة، لا تزال نسبة كبيرة منهم تعيش في الفقر الذي توثّقه الدراسات المحلية والأجنبية "وما زالت الحسابات الوطنية للدولة تقول بأن الوضع الاقتصادي للدولة والناس يجب أن يكون تعيساً"، على حد تعبير المصادر. فما الذي يوحي بأن الناس أعادت ترتيب حياتها بما يُشبه ما كانت تعيشه قبل العام 2019؟.
جانب واحد من القصة
الشريحة الأوسع من اللبنانيين تعيش "في حالة يرثى لها"، وبالتالي هناك حالة تشبه الخداع البصري تظهر بوجود حركة أموال في البلد، يُتَوَهَّم من خلالها أنه يُعاد توزيعها على اللبنانيين، وهذا يجافي الحقيقة. وبنظر المصادر "نحن نرى جانباً واحداً من القصة، وهناك جانب آخر خفيّ لا يمكن رؤيته مباشرة بل يمكن ملاحظته، وهو تبييض الأموال".
لا تتّهم المصادر أي شخصٍ ماديّ أو معنويّ بتبييض الأموال، لكنها تنطلق من "القواعد العلمية" للبحث في حركة الاقتصاد وموقع اللبنانيين داخله. وفي القواعد العلمية "الاقتصاد اللبناني ليس اقتصاداً سليماً". وبغياب سلطة الدولة وزيادة معدّلات التهرّب الضريبي وضعف الرقابة أكثر مما كانت عليه قبل الأزمة، وتحوُّل الاقتصاد إلى اقتصاد الكاش وانغماس إدارات الدولة فيه "ينفتح الطريق بشكل أوسع نحو تبييض الأموال ومساهمة الجميع فيه، سواء عن علم أو غير علم، حتى الدولة أيضاً. فالجميع يتعامل بأموال غير معروفة المصادر، وهذا هو مدخل تبييض الأموال الذي يغذّي السوق والكثير من العائلات اللبنانية بشكل مباشر أو غير مباشر". حتى أن "المصرف المركزي يعيد شراء دولارات من السوق، لا يعرف مصدرها".
وبهذه الحالة "تصبح أي عملية تجارة فعلية في السوق، مسرحاً لتبييض الأموال، لأنها تتعامل بأموال مجهولة المصدر". وكذلك، فإن موظّفي القطاع الخاص الذين يعملون في مؤسسات ويتقاضون رواتبَ شهرية "هم يساهمون في تبييض الأموال عبر تنشيط حركة أموال غير معلومة وغير موثّقة، خصوصاً عبر القطاع المصرفي الذي كان يراقب سابقاً مصادر الأموال من خلال إيداع المموِّلين أموالهم في المصارف بعد إنجاز معاملات إدارية تتضمَّن التصريح عن مصادر الأموال، ويتم التحقُّق منها بنسب عالية جداً، وعلى مستوى دولي. وكانت المصارف تتخوَّف من العقوبات في حال قبولها أموالاً مشكوك بها".
الجمعيات الأهلية التي نشطت خلال فترة الأعوام الخمسة "ساعدت أيضاً في تنشيط حركة تبييض الأموال. واستغلّت الأحزاب السياسية هذا الواقع لتخفِّفَ عن كاهلها عبء مساعدة مناصريها ومجتمعاتها من أموالها، وتغاضت عن عمل الجمعيات، أو ساهمت في بعضها أحياناً، لتموِّلَ بيئتها من مصادر خارجية".
إشكالية بناء الاقتصاد
سيطرة اقتصاد الكاش وتبييض الأموال المُلاحَظ محلياً ودولياً "لا يبني الاقتصاد، رغم وجود الأموال في السوق. فالاقتصاد اللبناني لا يقوم اليوم على خلق الثروة، وإنما تأتي الثروة من خارجه، وهنا تكمن اشكالية بناء الاقتصاد الحقيقي". وتلفت المصادر النظر إلى أن "المجتمع الدولي يدرك ما يحصل في لبنان ويتعامل مع الواقع من منطلق سياسي لا اقتصادي، إذ يستفيد من العامل الاقتصادي للضغط على الطبقة السياسية لقبول ملفّات وتغييرات حسّاسة في المنطقة".
وتستبعد المصادر الانتقال إلى واقع أفضل أو بناء اقتصاد سليم في المدى المنظور، لأن التغييرات الجيوسياسية الحاصلة في المنطقة لم تهدأ ولم تتحدَّد معالمها النهائية بعد، ما يعني أن حركة الاقتصاد اللبناني وموقع اللبنانيين فيه، مستمرة على ما هي عليه اليوم، وأي تحسُّن، لا بدّ وأن يظهر من خلال تقليص حجم اقتصاد الكاش وتحديد مصادر الأموال التي تتحرّك في السوق، فضلاً عن جذب الاستثمارات التي تخلق فرص عمل وتسمح بحركة أموال مُنتَجة داخل الاقتصاد ولم تسقط عليه من الخارج. وبذلك، يؤمِّن اللبنانيون معيشتهم ضمن حركة اقتصادية سليمة.