لا رئيس للجمهورية ما لم يتفق اللبنانيون على أولويات خياراتهم الوطنية
بالأمس التقت الكتل النيابية، من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، في موقف موحدّ، وإن بإخراج سيء، على معالجة سريعة لمسألة في غاية الأهمية لاقت إجماعًا لبنانيًا على توصيفها بأنها من بين أخطر المسائل، التي واجها لبنان في الماضي ويواجهها اليوم، حتى أن البعض وصف النزوح السوري بوضعه الفوضوي بأنه "خطر وجودي". وقد يكون هذا التوافق اللبناني مقدمة لازمة لمعالجات أخرى لا تقّل أهمية عن هذه المسألة، وبالتوازي إبقاء العين على الخطر الجنوبي، وما قد تؤدي إليه التسويات الكبرى في المنطقة، والتي قد تكون نتائجها على حساب الشعوب الضعيفة أو المستضعفة، ومن بين هذه المخاوف إمكانية استبدال شعب بآخر عبر تهجير ممنهج لفلسطينيي قطاع غزة إلى صحراء سيناء، وفلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن، وفلسطينيي الـ 48 إلى لبنان.
لكن الموقف الموحَد والموحِد الذي اتخذه اللبنانيون بالأمس عبر مجلسهم النيابي الممثلة فيه جميع المكونات السياسية والطائفية والمذهبية برفض أن يكون لبنان بدلًا عن ضائع سيكون له التأثير الإيجابي على مسار التسويات الكبرى. وهذا ما لمسه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والوفد الوزاري إلى القمة العربية في البحرين، حيث تبّين أن جميع الذين يتعاطون بالملف اللبناني بدت مقارباتهم مختلفة عن السابق، وإن لم تتغيّر طريقة التعبير عن التعاطف الدولي والعربي مع ما يعانيه لبنان من مختلف النواحي، مع أن التوصية التي أصدرها مجلس النواب للحكومة تتطلب مثابرة وإلحاحًا، وقد بدت ملامحهما واضحة في اللقاءات الجانبية للرئيس ميقاتي على هامش أعمال القمة العربية، وإن استقطب موضوع الحرب على غزة الاهتمام الأكبر ومدى انعكاسها على لبنان ودول الجوار.
وكما كان هذا الاجماع النيابي على معالجة سريعة لمسألة النزوح السوري انطلاقًا مما يشكّله من خطر داهم فإن الاتفاق أو التوافق اللبناني مطلوب في مسائل وقضايا أخرى، وإن لم تكن وجهات نظر مختلف الأفرقاء متقاربة في خلفياتها السياسية وارتباطاتها الخارجية مع ما تفرضه المصلحة الوطنية العليا.
فكما أن التمديد لقائد الجيش ومعه سائر القادة الأمنيين لم يكن ليتم لو لم تتوافق قوى المعارضة، وعلى رأسها "القوات اللبنانية" مع الرئيس نبيه بري، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التمديد سنة للمجالس البلدية والاختيارية عبر تسوية بين كتلة "لبنان القوي" ورئيس مجلس النواب، فإن أي مسألة أخرى لن ترى النور إن لم يسبقها توافق بالحدّ الأدنى على العناوين العريضة.
ولكي لا يبقى الملف الرئاسي متروكًا للصدف فإن التوافق اللبناني – اللبناني على تظهير صورة الرئيس العتيد قد أصبح أكثر من حاجة ملحة، وذلك بالتلازم مع مساعي "اللجنة الخماسية"، التي ستدخل، على ما يبدو، في مرحلة تركيب "البازل الرئاسي" تمهيدًا لإسقاط ما تمّ التوافق عليه "خماسيًا" من مواصفات عامة على اسم الرئيس العتيد، والذي ستكون مهمته في غاية الأهمية والصعوبة في آن، إذ لم يسبق لأي رئيس سابق أن حُمّل ما سيُحمّل الرئيس الرابع عشر للجمهورية اللبنانية.
فما يمكن استنتاجه مما سبق من توافقات لبنانية – لبنانية هو أن الحوار، وإن كان ثنائيًا أو ثلاثيًا أو رباعيًا، هو السبيل الوحيد لإنتاج رئيس للجمهورية، ولكن ليس أي حوار، الذي غالبًا ما كان أقرب إلى "حوار الطرشان". وهذا ما خبره اللبنانيون منذ مؤتمري جنيف ولوزان وصولًا إلى طاولات الحوار في قصر بعبدا و "عين التينة"، باستثناء مؤتمري الطائف والدوحة، اللذين أنتجا اتفاقًا وتسوية. ولولا الدعم الدولي والعربي لما كان اتفاق الطائف ولا تسوية الدوحة قد أبصرا النور.
فلا رئيس ما لم يتوافق اللبنانيون بين بعضهم البعض على أن الاستحقاق الرئاسي يوازي بأهميته الدستورية ورمزيته الوحدوية مسألتي النزوح السوري والخطر الإسرائيلي، وما لم يستوعبوا أن لبنان من دون رأس أضعف بكثير، وأن سائر الملفات تبقى من حيث الأهمية أقل شأنًا من إتمام هذا الاستحقاق تحت مسمّى الاجماع الوطني.