بعد الانهيار... هل يكمُن الحلّ في مغادرة لبنان؟
فكَّرَ كثيرون في الرحيل إمّا عبر الانضمام إلى أقاربهم في بلدان الاغتراب أو التقدُّم للحصول على وظيفة في الخليج أو الحصول على تأشيرة للدراسة
ليسَ من السهل نقل العائلة إلى بلدٍ آخر أو الحصول على تأشيرة المواهب أو البطاقة الخضراء ما يجعل الراغب بالهجرة يشعر كأنه محتجز أو «مسجون»
أصبحت إجراءات التقدُّم للحصول على تأشيرة عمليةً مُكلِفة ومعقّدة إذ تتطلّب تقديم الشهادات وإثبات المؤهّلات وإثبات إمكانية تأمين سُبُل العيش
في بعض الأحيان قد نختار العيش مع المتاعب مُتَّحِدين في «انكسارنا» إنَّما حريصون على صياغة التزام جَمَاعي بمشروع سياسي على المدى الأبعد
نشر المركز اللبناني للدراسات تقريراً للباحثة تاميراس فاخوري يطرح اشكالية شعور البعض بأنَّهم «مُحاصَرون» في دول باتت عاجزة عن تأمين الاحتياجات الأساسية ومقوّمات العيش الكريم لسكّانها؟ هل الهروب هو الحلّ، أم أنَّ الأزمات قد تحمل معها الفُرَص لبداياتٍ جديدة؟ وفي ما يلي ابرز ما جاء في التقرير:
في لبنان، البلد الذي مزّقته مؤخّراً الأزمات المتزامنة بدءاً من الفساد المستشري في الدولة والانهيار المالي الكارثي، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت عام 2020 (الذي وُصِف بأكبر انفجار غير نووي شهده التاريخ)، يتخبّط المواطنون في معضلة البقاء أو الرحيل. ويشير العديد من المقالات واستطلاعات الرأي والدراسات الاستقصائية إلى أنَّ اللبنانيين يرغبون بشدّة في مغادرة البلد حيث يشعرون بالإحباط والحرمان واليأس.
على الرغم من أنَّ الانهيار المالي الأخير في لبنان يعود إلى أسباب متجذّرة في تاريخ البلد، غير أنَّ الناس لم يلمسوا عواقبه المدمّرة سوى في نهاية صيف عام 2019. في غضون أيّام قليلة، أدركَ الناس أنَّ أموالهم أصبحت مجرّد رقم وهمي على التطبيقات الإلكترونية للمصارف. وفي تشرين الأوّل/أكتوبر من تلك السنة، اندلعت سلسلة من الاحتجاجات في مناطق مختلفة على خلفية ضريبة مُقترَحة على تطبيق «واتساب». وشكّلت الضريبة شرارةً رمزية كشفت عن الاستياء العميق من السياسات الطائفية في لبنان، التي أسّست بنيةً متشعّبة من الفساد والمحسوبيات: وعادةً ما يُشير المحلّلون إلى بُنية الفساد هذه باسم «مخطّط بونزي» حيث تآمرت النُخبة السياسية والمؤسّسات الحكومية مثل مصرف لبنان والمصارف الخاصّة لنهب الموارد الوطنية.
الانتفاضة وما بعدها
شكّلت انتفاضة تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 منعطفاً بارزاً. ففي الأشهر الأولى من الانتفاضة، عبَّرَ الناس بصوتٍ واحد عن استيائهم ممّا يُعرَف بنظام المحاصصة الطائفية. لقد توحَّدَ الفنّانون والكُتّاب والطلّاب والمحامون والناشطون النسويون ومجتمع الميم ومنظّمات المهاجرين، بهدف المطالبة باستعادةِ بلدٍ تمّ تجريده من مؤسّساته وموارده.
وفي سياق الأزمات المتزامنة، تلاشت موجة الاحتجاجات، رغم أنّها تركت إرثًا لا يُنسى. في الواقع، خلال السنوات الأخيرة، ومع تدهور الأوضاع المعيشية، وسقوط شبكات الأمان، بالإضافة إلى موجات الطرد التعسّفي من العمل، باتَ الاحتجاج تَرَفاً. وبحلول شهر تمّوز/يوليو 2020، فقدت القدرة الشرائية لدى المواطنين ورواتبهم أكثر من 80 في المئة من قيمتها في ظلّ ارتفاع معدّلات التضخّم. وفي حين منعت المصارف المودعين من الوصول إلى أموالهم، نعى المواطنون جنى عمرهم. وبعد فشل المحاولات الرامية إلى الإطاحة بزعماء الطوائف، وصلَ الكثير من الناشطين إلى طريقٍ مسدود وحالةٍ من الاستنزاف
عقب الانفجار الذي هزّ بيروت، توقّفت الدولة تدريجياً عن دعم المحروقات والأدوية والخبز، ودخلَ الكثيرون في دوّامة الفقر والحرمان. وبحلول عام 2021، كانَ عدد كبير من الأكاديميين المرموقين إمّا قد أخذوا إجازة أو تركوا مؤسّساتهم التي عجزت آنذاك عن التصدّي للتضخّم المتزايد، وتراجُع معدّلات التحاق الطلّاب، والنقص في السيولة.
دخول العام الخامس
وفي إطار الخلافات السياسية، لم تنجح الطبقة الحاكمة في الاتّفاق على خطّة إنقاذ مالي. واليوم، يُشارِف لبنان على دخول عامه الخامس من الانهيار المالي الحادّ الذي دفعَ بنحو 80 في المئة من الناس إلى براثن الفقر. ونظراً لغياب الحلول على المستوى الوطني، بدأت المطاعم والمحلّات التجارية والشركات في اعتماد الدولار الأميركي كعملة أساسية لتيسير أعمالها اليومية، وكأنَّ الليرة اللبنانية أصبحت من مخلّفات الماضي. ومع الصعود الحتمي للاقتصاد المُدَولَر، يُعاني الأشخاص الذين ما زالوا يتقاضون رواتبهم بالعملة المحلّية من أشكال جديدة من الفقر. وبحسب خبراء اقتصاديين لبنانيين، باتَ الوضع أشبه بحالة طارئة ومُلِحّة بلا شكّ، إذ «من بين كلّ خمسة مُقيمين في لبنان، هناك ثلاثة يُعتبَرون فقراء».
وبطبيعة الحال، تتفاقم الهشاشة الاقتصادية التي يعاني منها الناس بسبب أزمات الحوكمة، وأكبر دليل على ذلك هو عرقلة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت والركود شبه التامّ في مؤسّسات الدولة.
سيناريوات وأشكال جديدة للهجرة
في هذا السياق، تتردّد في أذهان المواطنين اللبنانيين فكرة الهجرة. واضطرّ آخرون إلى الهجرة بداعي الضرورة إلى الخليج أو فرنسا أو كندا أو بلدان أخرى. وتمكَّنَ أصحاب المهارات، مثل خبراء تكنولوجيا المعلومات والممرّضين والممرّضات والأطبّاء والأكاديميين، من الحصول على وظائف جديدة في الخارج في بعض الحالات، فيما قرّر آخرون الشروع في رحلات محفوفة بالمخاطر بسبب قلّة مواردهم. وكشفت استطلاعات الرأي والتقارير عن توجُّهٍ جديد مُثير للقلق بدأ يظهر منذ عام 2020، ألا وهو الهجرة غير النظامية عبر الطرق البحرية الخطيرة. إذاً، كيف نفهم خطط الناس للهجرة وتطلّعاتهم إلى المغادرة؟
تعود الهجرة في لبنان إلى القرن الثامن عشر. لقد استكشفَ الناس آفاقاً وقارات جديدة في ظلّ عاملَيْن: البحث عن فرص اقتصادية جديدة، والهروب من النزاعات والصراعات. ولا شكَّ في أنَّ الانهيار المالي الحالي وما يُرافقه من أزماتٍ في الحوكمة قد أثارَ موجةً جديدة من الهجرة. ولكنْ، ما تجدر الإشارة إليه هو أنَّ عبور الحدود بحدّ ذاته ليسَ بالضرورة جسدياً فحسب، بل معنوياً ونفسياً أيضاً. فالناس يشعرون بأنّهم مُبعَدون عن حياتهم اليومية ومستقبلهم.
في أعقاب الانهيار المالي، فكَّرَ الكثيرون مليّاً في سيناريوات الرحيل، إمّا عبر الانضمام إلى أقاربهم الميسورين في بلدان الاغتراب، أو عبر التقدُّم للحصول على وظيفة في دبي، أو الحصول على تأشيرة للدراسة في الخارج.
غير أنَّ الأمر ليسَ محصوراً بالتفكير في المغادرة، إذ ليسَ من السهل نقل العائلة إلى بلدٍ آخر أو الحصول على تأشيرة المواهب أو البطاقة الخضراء. ففي ظلّ تشديد الشروط في أنظمة التأشيرات الدولية، أصبحت إجراءات التقدُّم للحصول على تأشيرة الهجرة عمليةً مُكلِفة ومعقّدة للغاية، إذ تتطلّب تقديم الشهادات وإثبات المؤهّلات وإثبات إمكانية تأمين سُبُل العيش.
معضلة اللاجئين أيضاً
لا يقتصر السعي لمغادرة البلد على المواطنين اللبنانيين. فهذا البلد الصغير يستضيف حوالى مليونَيْ لاجئ سوري وعراقي وفلسطيني، وهم أيضاً يشعرون بأنَّهم مُحاصَرون وغير قادرين على اتّخاذ القرارات السليمة بشأن خياراتهم الحياتية في ظلّ انزلاق الاقتصاد نحو الهاوية. لقد تعرقلت خطط الكثير من اللاجئين السوريين والعراقيين، الذين كانوا يأملون في التقدُّم بطلب لإعادة التوطين أو النقل، وذلك بسبب إغلاق الحدود جرّاء تفشّي جائحة كوفيد-19 وتأخُّر الطلبات. وعلى الرغم من أنَّ الجائحة قد انتهت، غير أنَّ أعداد حالات إعادة ترحيل اللاجئين في لبنان لا تزال منخفضة.
رحلات محفوفة بالمخاطر
إنطلاقاً من هذه الخلفية، وكما أشرنا أعلاه، شرعَ الناس في رحلات محفوفة بالمخاطر، وحوّلوا سيناريوات الفرار إلى واقع. وعلى أمل الوصول إلى إيطاليا أو قبرص، استقلّوا القوارب في البحر الأبيض المتوسّط الذي يُعتبَر من أخطر البحار من حيث طرق الهجرة البحرية.
بين العامَين 2020 و2022، أفادت التقارير أنَّ عدداً متزايداً من المواطنين السوريين واللبنانيين سافروا على متن القوارب، بتسهيلٍ من شبكات الاتجار بالبشر. وفي العام 2022، سعى أكثر من 4000 شخص إلى مغادرة البلد عبر طرق غير نظامية مقارنةً بـ 1570 في عام 2021، و794 في عام 2020، و270 في عام 2019. وتُشير التقديرات إلى أنَّ 26 في المئة من الأشخاص الذين حاولوا المغادرة هم مواطنون لبنانيون.
بالإضافة إلى الطريق البحري، أفادت مفوّضية الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين أنَّ الكثير من اللبنانيين حاولوا المغادرة بتأشيرة إلى دولة ثالثة تُتيح لهم الاقتراب من الاتّحاد الأوروبي. ما مدى انتشار هذه الاتّجاهات وحجمها، وهل سيصبح الفرار طريقةً مُعتمَدة للتعامل مع الانهيار المالي؟ تصعُب الإجابة عن هذين السؤالَيْن نظراً لعدم وجود بيانات موثوقة. ولكنْ، ما تكشفه هذه الاتّجاهات والتطلّعات إلى الهجرة هو شعورٌ بالضيق الشديد يدفع الناس إلى إعادة تصوُّر حياتهم بعيداً و»في مكانٍ آخر».
القوّة المُثمِرة في البقاء؟
قد يكون الرحيل هو الشغل الشاغل في أذهان الناس. ومع ذلك، فإنَّ صعوبات الحصول على التأشيرات، وسياسات الهجرة الأكثر تشدُّداً، وبروز اليمين المتطرّف في الغرب، والتداعيات الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد-19، كلّها عوامل تَحول دون تَمَكُّن الكثيرين من المغادرة. وفي هذا السياق، فإنَّ الرغبة في المغادرة /الهروب/ إعادة تأسيس النفس في «مشهد زمني» مُختلِف تعكس وقائع نفسية معقّدة: فكيف يمكن للمرء أن يفهم ماضيه وحاضره ومستقبله عندما يبدو أنَّ الزمن يُراوِح مكانه، والفرص تبدو بعيدة المنال؟
على الرغم من هذا الشعور بالضيق، فإنَّ الانتظار أثناء التفكير في معضلة البقاء أو المغادرة قد فتحَ فصلاً جديداً للكثيرين. لقد حوَّلَ الناشطون وروّاد الأعمال والطلّاب والنازحون الحاضرَ الذي يبدو راكداً إلى بوابةٍ لبدايات مُبتكرة. فالأشخاص الذين حاورْتُهم أشاروا إلى العديد من الحلول التي لجأوا إليها: قطف الزيتون، صناعة النبيذ، إنشاء مجلّة إلكترونية، فتح حانة جديدة في منطقة مار ميخائيل التي دمّرها الانفجار، تأليف كتاب، ترميم منزل متهدّم في الأرياف، التطوّع في منظّمة غير حكومية محلّية، تنظيم دورات في الكتابة الإبداعية، أو الإعداد لإنشاء نقابات واتّحادات عمّالية بديلة.
ركَّزَ الأكاديميون والمفكّرون على نقطة التحوّل هذه باعتبارها فرصة للتأمُّل في موقعهم، مُستنِدين إلى «الكتابة» كوسيلة تعبير مجازية وعلاجية لاستعادة زمام المستقبل. وحتّى لو غادرَ الكثيرون في نهاية المطاف، غير أنَّهم لم يقطعوا روابطهم مع مجتمعهم، بل ما زالوا يشاركون في الحياة الاقتصادية والثقافية في لبنان عبر طرق كثيرة منها: تنظيم المبادرات الفنّية، أو إنشاء المدوّنات، أو التعاون مع السكّان المحلّيين لتطوير خطط للإنقاذ الاقتصادي، أو الضغط على ممثّليهم في الخارج لمحاسبة الطبقة الحاكمة المتداعية في لبنان.
وكما تُذكِّرُنا صوفي شماس: في بعض الأحيان، قد نختار «العيش مع المتاعب»، مُتَّحِدين في «انكسارنا»، إنَّما حريصون على صياغة التزام جَمَاعي بمشروع سياسي على المدى الأبعد.
ليسَ من السهل نقل العائلة إلى بلدٍ آخر أو الحصول على تأشيرة المواهب أو البطاقة الخضراء ما يجعل الراغب بالهجرة يشعر كأنه محتجز أو «مسجون»
أصبحت إجراءات التقدُّم للحصول على تأشيرة عمليةً مُكلِفة ومعقّدة إذ تتطلّب تقديم الشهادات وإثبات المؤهّلات وإثبات إمكانية تأمين سُبُل العيش
في بعض الأحيان قد نختار العيش مع المتاعب مُتَّحِدين في «انكسارنا» إنَّما حريصون على صياغة التزام جَمَاعي بمشروع سياسي على المدى الأبعد
نشر المركز اللبناني للدراسات تقريراً للباحثة تاميراس فاخوري يطرح اشكالية شعور البعض بأنَّهم «مُحاصَرون» في دول باتت عاجزة عن تأمين الاحتياجات الأساسية ومقوّمات العيش الكريم لسكّانها؟ هل الهروب هو الحلّ، أم أنَّ الأزمات قد تحمل معها الفُرَص لبداياتٍ جديدة؟ وفي ما يلي ابرز ما جاء في التقرير:
في لبنان، البلد الذي مزّقته مؤخّراً الأزمات المتزامنة بدءاً من الفساد المستشري في الدولة والانهيار المالي الكارثي، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت عام 2020 (الذي وُصِف بأكبر انفجار غير نووي شهده التاريخ)، يتخبّط المواطنون في معضلة البقاء أو الرحيل. ويشير العديد من المقالات واستطلاعات الرأي والدراسات الاستقصائية إلى أنَّ اللبنانيين يرغبون بشدّة في مغادرة البلد حيث يشعرون بالإحباط والحرمان واليأس.
على الرغم من أنَّ الانهيار المالي الأخير في لبنان يعود إلى أسباب متجذّرة في تاريخ البلد، غير أنَّ الناس لم يلمسوا عواقبه المدمّرة سوى في نهاية صيف عام 2019. في غضون أيّام قليلة، أدركَ الناس أنَّ أموالهم أصبحت مجرّد رقم وهمي على التطبيقات الإلكترونية للمصارف. وفي تشرين الأوّل/أكتوبر من تلك السنة، اندلعت سلسلة من الاحتجاجات في مناطق مختلفة على خلفية ضريبة مُقترَحة على تطبيق «واتساب». وشكّلت الضريبة شرارةً رمزية كشفت عن الاستياء العميق من السياسات الطائفية في لبنان، التي أسّست بنيةً متشعّبة من الفساد والمحسوبيات: وعادةً ما يُشير المحلّلون إلى بُنية الفساد هذه باسم «مخطّط بونزي» حيث تآمرت النُخبة السياسية والمؤسّسات الحكومية مثل مصرف لبنان والمصارف الخاصّة لنهب الموارد الوطنية.
الانتفاضة وما بعدها
شكّلت انتفاضة تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 منعطفاً بارزاً. ففي الأشهر الأولى من الانتفاضة، عبَّرَ الناس بصوتٍ واحد عن استيائهم ممّا يُعرَف بنظام المحاصصة الطائفية. لقد توحَّدَ الفنّانون والكُتّاب والطلّاب والمحامون والناشطون النسويون ومجتمع الميم ومنظّمات المهاجرين، بهدف المطالبة باستعادةِ بلدٍ تمّ تجريده من مؤسّساته وموارده.
وفي سياق الأزمات المتزامنة، تلاشت موجة الاحتجاجات، رغم أنّها تركت إرثًا لا يُنسى. في الواقع، خلال السنوات الأخيرة، ومع تدهور الأوضاع المعيشية، وسقوط شبكات الأمان، بالإضافة إلى موجات الطرد التعسّفي من العمل، باتَ الاحتجاج تَرَفاً. وبحلول شهر تمّوز/يوليو 2020، فقدت القدرة الشرائية لدى المواطنين ورواتبهم أكثر من 80 في المئة من قيمتها في ظلّ ارتفاع معدّلات التضخّم. وفي حين منعت المصارف المودعين من الوصول إلى أموالهم، نعى المواطنون جنى عمرهم. وبعد فشل المحاولات الرامية إلى الإطاحة بزعماء الطوائف، وصلَ الكثير من الناشطين إلى طريقٍ مسدود وحالةٍ من الاستنزاف
عقب الانفجار الذي هزّ بيروت، توقّفت الدولة تدريجياً عن دعم المحروقات والأدوية والخبز، ودخلَ الكثيرون في دوّامة الفقر والحرمان. وبحلول عام 2021، كانَ عدد كبير من الأكاديميين المرموقين إمّا قد أخذوا إجازة أو تركوا مؤسّساتهم التي عجزت آنذاك عن التصدّي للتضخّم المتزايد، وتراجُع معدّلات التحاق الطلّاب، والنقص في السيولة.
دخول العام الخامس
وفي إطار الخلافات السياسية، لم تنجح الطبقة الحاكمة في الاتّفاق على خطّة إنقاذ مالي. واليوم، يُشارِف لبنان على دخول عامه الخامس من الانهيار المالي الحادّ الذي دفعَ بنحو 80 في المئة من الناس إلى براثن الفقر. ونظراً لغياب الحلول على المستوى الوطني، بدأت المطاعم والمحلّات التجارية والشركات في اعتماد الدولار الأميركي كعملة أساسية لتيسير أعمالها اليومية، وكأنَّ الليرة اللبنانية أصبحت من مخلّفات الماضي. ومع الصعود الحتمي للاقتصاد المُدَولَر، يُعاني الأشخاص الذين ما زالوا يتقاضون رواتبهم بالعملة المحلّية من أشكال جديدة من الفقر. وبحسب خبراء اقتصاديين لبنانيين، باتَ الوضع أشبه بحالة طارئة ومُلِحّة بلا شكّ، إذ «من بين كلّ خمسة مُقيمين في لبنان، هناك ثلاثة يُعتبَرون فقراء».
وبطبيعة الحال، تتفاقم الهشاشة الاقتصادية التي يعاني منها الناس بسبب أزمات الحوكمة، وأكبر دليل على ذلك هو عرقلة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت والركود شبه التامّ في مؤسّسات الدولة.
سيناريوات وأشكال جديدة للهجرة
في هذا السياق، تتردّد في أذهان المواطنين اللبنانيين فكرة الهجرة. واضطرّ آخرون إلى الهجرة بداعي الضرورة إلى الخليج أو فرنسا أو كندا أو بلدان أخرى. وتمكَّنَ أصحاب المهارات، مثل خبراء تكنولوجيا المعلومات والممرّضين والممرّضات والأطبّاء والأكاديميين، من الحصول على وظائف جديدة في الخارج في بعض الحالات، فيما قرّر آخرون الشروع في رحلات محفوفة بالمخاطر بسبب قلّة مواردهم. وكشفت استطلاعات الرأي والتقارير عن توجُّهٍ جديد مُثير للقلق بدأ يظهر منذ عام 2020، ألا وهو الهجرة غير النظامية عبر الطرق البحرية الخطيرة. إذاً، كيف نفهم خطط الناس للهجرة وتطلّعاتهم إلى المغادرة؟
تعود الهجرة في لبنان إلى القرن الثامن عشر. لقد استكشفَ الناس آفاقاً وقارات جديدة في ظلّ عاملَيْن: البحث عن فرص اقتصادية جديدة، والهروب من النزاعات والصراعات. ولا شكَّ في أنَّ الانهيار المالي الحالي وما يُرافقه من أزماتٍ في الحوكمة قد أثارَ موجةً جديدة من الهجرة. ولكنْ، ما تجدر الإشارة إليه هو أنَّ عبور الحدود بحدّ ذاته ليسَ بالضرورة جسدياً فحسب، بل معنوياً ونفسياً أيضاً. فالناس يشعرون بأنّهم مُبعَدون عن حياتهم اليومية ومستقبلهم.
في أعقاب الانهيار المالي، فكَّرَ الكثيرون مليّاً في سيناريوات الرحيل، إمّا عبر الانضمام إلى أقاربهم الميسورين في بلدان الاغتراب، أو عبر التقدُّم للحصول على وظيفة في دبي، أو الحصول على تأشيرة للدراسة في الخارج.
غير أنَّ الأمر ليسَ محصوراً بالتفكير في المغادرة، إذ ليسَ من السهل نقل العائلة إلى بلدٍ آخر أو الحصول على تأشيرة المواهب أو البطاقة الخضراء. ففي ظلّ تشديد الشروط في أنظمة التأشيرات الدولية، أصبحت إجراءات التقدُّم للحصول على تأشيرة الهجرة عمليةً مُكلِفة ومعقّدة للغاية، إذ تتطلّب تقديم الشهادات وإثبات المؤهّلات وإثبات إمكانية تأمين سُبُل العيش.
معضلة اللاجئين أيضاً
لا يقتصر السعي لمغادرة البلد على المواطنين اللبنانيين. فهذا البلد الصغير يستضيف حوالى مليونَيْ لاجئ سوري وعراقي وفلسطيني، وهم أيضاً يشعرون بأنَّهم مُحاصَرون وغير قادرين على اتّخاذ القرارات السليمة بشأن خياراتهم الحياتية في ظلّ انزلاق الاقتصاد نحو الهاوية. لقد تعرقلت خطط الكثير من اللاجئين السوريين والعراقيين، الذين كانوا يأملون في التقدُّم بطلب لإعادة التوطين أو النقل، وذلك بسبب إغلاق الحدود جرّاء تفشّي جائحة كوفيد-19 وتأخُّر الطلبات. وعلى الرغم من أنَّ الجائحة قد انتهت، غير أنَّ أعداد حالات إعادة ترحيل اللاجئين في لبنان لا تزال منخفضة.
رحلات محفوفة بالمخاطر
إنطلاقاً من هذه الخلفية، وكما أشرنا أعلاه، شرعَ الناس في رحلات محفوفة بالمخاطر، وحوّلوا سيناريوات الفرار إلى واقع. وعلى أمل الوصول إلى إيطاليا أو قبرص، استقلّوا القوارب في البحر الأبيض المتوسّط الذي يُعتبَر من أخطر البحار من حيث طرق الهجرة البحرية.
بين العامَين 2020 و2022، أفادت التقارير أنَّ عدداً متزايداً من المواطنين السوريين واللبنانيين سافروا على متن القوارب، بتسهيلٍ من شبكات الاتجار بالبشر. وفي العام 2022، سعى أكثر من 4000 شخص إلى مغادرة البلد عبر طرق غير نظامية مقارنةً بـ 1570 في عام 2021، و794 في عام 2020، و270 في عام 2019. وتُشير التقديرات إلى أنَّ 26 في المئة من الأشخاص الذين حاولوا المغادرة هم مواطنون لبنانيون.
بالإضافة إلى الطريق البحري، أفادت مفوّضية الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين أنَّ الكثير من اللبنانيين حاولوا المغادرة بتأشيرة إلى دولة ثالثة تُتيح لهم الاقتراب من الاتّحاد الأوروبي. ما مدى انتشار هذه الاتّجاهات وحجمها، وهل سيصبح الفرار طريقةً مُعتمَدة للتعامل مع الانهيار المالي؟ تصعُب الإجابة عن هذين السؤالَيْن نظراً لعدم وجود بيانات موثوقة. ولكنْ، ما تكشفه هذه الاتّجاهات والتطلّعات إلى الهجرة هو شعورٌ بالضيق الشديد يدفع الناس إلى إعادة تصوُّر حياتهم بعيداً و»في مكانٍ آخر».
القوّة المُثمِرة في البقاء؟
قد يكون الرحيل هو الشغل الشاغل في أذهان الناس. ومع ذلك، فإنَّ صعوبات الحصول على التأشيرات، وسياسات الهجرة الأكثر تشدُّداً، وبروز اليمين المتطرّف في الغرب، والتداعيات الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد-19، كلّها عوامل تَحول دون تَمَكُّن الكثيرين من المغادرة. وفي هذا السياق، فإنَّ الرغبة في المغادرة /الهروب/ إعادة تأسيس النفس في «مشهد زمني» مُختلِف تعكس وقائع نفسية معقّدة: فكيف يمكن للمرء أن يفهم ماضيه وحاضره ومستقبله عندما يبدو أنَّ الزمن يُراوِح مكانه، والفرص تبدو بعيدة المنال؟
على الرغم من هذا الشعور بالضيق، فإنَّ الانتظار أثناء التفكير في معضلة البقاء أو المغادرة قد فتحَ فصلاً جديداً للكثيرين. لقد حوَّلَ الناشطون وروّاد الأعمال والطلّاب والنازحون الحاضرَ الذي يبدو راكداً إلى بوابةٍ لبدايات مُبتكرة. فالأشخاص الذين حاورْتُهم أشاروا إلى العديد من الحلول التي لجأوا إليها: قطف الزيتون، صناعة النبيذ، إنشاء مجلّة إلكترونية، فتح حانة جديدة في منطقة مار ميخائيل التي دمّرها الانفجار، تأليف كتاب، ترميم منزل متهدّم في الأرياف، التطوّع في منظّمة غير حكومية محلّية، تنظيم دورات في الكتابة الإبداعية، أو الإعداد لإنشاء نقابات واتّحادات عمّالية بديلة.
ركَّزَ الأكاديميون والمفكّرون على نقطة التحوّل هذه باعتبارها فرصة للتأمُّل في موقعهم، مُستنِدين إلى «الكتابة» كوسيلة تعبير مجازية وعلاجية لاستعادة زمام المستقبل. وحتّى لو غادرَ الكثيرون في نهاية المطاف، غير أنَّهم لم يقطعوا روابطهم مع مجتمعهم، بل ما زالوا يشاركون في الحياة الاقتصادية والثقافية في لبنان عبر طرق كثيرة منها: تنظيم المبادرات الفنّية، أو إنشاء المدوّنات، أو التعاون مع السكّان المحلّيين لتطوير خطط للإنقاذ الاقتصادي، أو الضغط على ممثّليهم في الخارج لمحاسبة الطبقة الحاكمة المتداعية في لبنان.
وكما تُذكِّرُنا صوفي شماس: في بعض الأحيان، قد نختار «العيش مع المتاعب»، مُتَّحِدين في «انكسارنا»، إنَّما حريصون على صياغة التزام جَمَاعي بمشروع سياسي على المدى الأبعد.